أفكَار

حركة عبد الوهاب الشواف وأثرها على مستقبل القوميين في العراق

محكمة الشعب أصدرت حكمها بالإعدام بحق عدد من أعضاء ثورة الشواف في الموصل عام 1959.. (فيسبوك)
محكمة الشعب أصدرت حكمها بالإعدام بحق عدد من أعضاء ثورة الشواف في الموصل عام 1959.. (فيسبوك)
لا تزال فكرة القومية العربية أو العروبة القائمة على فهم أن العرب أمة واحدة تجمعها اللغة والثقافة والتاريخ والجغرافيا والمصالح، قائمة لدى تيار عريض من النخب العربية. وعلى الرغم من الهزائم السياسية التي منيت بها تجارب القوميين العرب في أكثر من قطر عربي، إلا أن ذلك لم يمنع من استمرار هذا التيار، ليس فقط كفاعل سياسي هامشي، بل كواحد من الأطراف السياسية الفاعلة في تأطير المشهد السياسي في المنطقة العربية.

ومع مطلع العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، الذي دشنته الثورة التونسية، عادت الحياة مجددا إلى الفعل السياسي وتجدد السجال التاريخي بين التيارات الرئيسية التي شكلت ولا تزال محور الحياة السياسية العربية، أي القوميين والإسلاميين واليساريين، بالإضافة لتيار تكنوقراط يحسب نفسه على الوطنية ناشئا على هامش هذا السجال.

وإذا كان الإسلاميون قد مثلوا الصوت الأعلى في مرحلة ما بعد ثورات الربيع العربي؛ بالنظر إلى كونهم التيار الأكثر تعرضا للإقصاء في العقود الماضية، ولأنه كذلك التيار الأقرب إلى غالبية روح الأمة التي تدين بالإسلام، فإن ذلك لم يمنع من عودة الحياة مجددا للتيار القومي، الذي بدا أكثر تمرسا بأدوات الصراع السياسي؛ على اعتبار تجربته بالحكم في أكثر من بلاد عربية، وأيضا لقربه من دوائر صنع القرار، خصوصا العسكرية والأمنية منها.

"عربي21"، تفتح ملف القومية العربية، أو التيارات القومية العربية بداية من المفاهيم التي نشأت عليها، وتجاربها والدروس المستفادة من هذه التجارب، بمشاركة كتاب ومفكرين عرب من مختلف الأقطار العربية، والهدف هو تعميق النقاش بين مكونات العائلات الفكرية العربية، وترسيخ الإيمان بأهمية التعددية الفكرية وحاجة العرب والمسلمين إليها.

اليوم يواصل الأستاذ الدكتور سعد ناجي جواد، عرض تاريخ التيار القومي في العراق، في ورقة علمية أعدها خصيصا لـ "عربي21" عن تاريخ القوميين في العراق وتوجهاتهم الرئيسية، ننشرها في حلقات.


الحركة القومية في العهد الجمهوري

لا يمكن لأي منصف أن ينكر الجوانب الإيجابية للنظام الملكي العراقي (1921- 1958) المتمثلة بمشاريع تحديث الدولة وتسخير موارد النفط للتنمية وتطوير التعليم وبناء دولة مدنية حديثة بكل المعايير وغيرها، لكن إصرار النظام على اتباع نفس السياسة المبنية على الخضوع لبريطانيا وتكرير نفس الوجوه القديمة في الحكم وعدم إفساح المجال للمعارضة في المشاركة والإصرار على تزوير الإنتخابات وإعدام المعارضين، حتى وإن كانوا يقودون حركات سلمية، وعدم الانتباه إلى الفوارق الإقتصادية، وخاصة تلك التي نتجت عن تفشي النظام الإقطاعي، كل ذلك خلق تذمراً شعبياً واسعاً شجع الجيش على التحرك لقلب النظام، أسوة بالتجربة المصرية.

بمجرد أن نجحت ثورة (انقلاب) 14 تموز/ يوليو 1958، حتى تفجرت الاختلافات بين الضباط الضباط الأحرار اولا، حيث أدى انفراد كل من الزعيم (العميد، ثم الفريق) عبدالكريم قاسم والعقيد (المشير) عبد السلام عارف، (الذين قامت القطعات التابعة لهم بعملية السيطرة على بغداد) بالسلطة الى تذمر باقي تنظيم الضباط الأحرار، الذين ظلوا يطالبون بتشكيل مجلس لقيادة الثورة كما كان متفقا عليه بينهم، إلا أن طلبهم اُهمِل.

وثانيا بين أطراف جبهة الإتحاد الوطني، حيث انقسمت (ومعهم الشارع المؤيد لاطرافها) إلى قسمين، الأول يرفض فكرة الانضمام الفوري للجمهورية العربية المتحدة ويمثله عبد الكريم قاسم (رئيس الوزراء الجديد)، وضم الحزبين الشيوعي والديمقراطي الكردستاني (الكتلة اليسارية)، والثاني يطالب بالوحدة الفورية ويمثله عبد السلام عارف (نائب رئيس الوزراء)، والذي اصطف معه الضباط القوميون العرب وحزبي الإستقلال والبعث (الكتلة القومية).

بعد عشرة أسابيع من نجاح الثورة تمكن قاسم من تحييد الكتلة القومية وذلك بإقالة عبد السلام عارف وتعينه سفيرا في المانيا. ولما رفض الأخير هذا التعيين وعاد إلى العراق أحيل إلى محكمة الشعب (المهداوي) سيئة الصيت بتهمتي التآمر لقلب نظام الحكم واغتيال عبد الكريم قاسم، وحُكِمَ عليه بالإعدام (الذي خفف إلى السجن المؤبد).

بمجرد أن نجحت ثورة (انقلاب) 14 تموز / يوليو 1958، حتى تفجرت الاختلافات بين الضباط الضباط الأحرار اولا، حيث أدى انفراد كل من الزعيم (العميد، ثم الفريق) عبدالكريم قاسم والعقيد (المشير) عبد السلام عارف، (الذين قامت القطعات التابعة لهم بعملية السيطرة على بغداد) بالسلطة الى تذمر باقي تنظيم الضباط الأحرار، الذين ظلوا يطالبون بتشكيل مجلس لقيادة الثورة كما كان متفقا عليه بينهم، إلا أن طلبهم اُهمِل.
في نفس الفترة تقريبا قدم ستة من الوزراء والمسؤولين الكبار المحسوبين على التيار القومي، ومعهم وزير من ضابط القيادة العليا تنظيم للضباط الأحرار، استقالاتهم لعبد الكريم قاسم، الذي سارع الى استبدالهم بوزراء موالين له وللتيار اليساري. وانتقل الإنقسام إلى الشارع العراقي، وجُعِلت قضية الوحدة واجهة الخلاف، في وقت كانت فيه الخلافات السياسية والفكرية الأخرى اكثر واعمق من مسألة الوحدة. المهم ومن اجل كسب الشارع، تمسك الاتجاه الذي يمثله حزب البعث والتيار القومي بمطلب الوحدة. واستخدمت هذه القضية لإحراج عبد الكريم قاسم والحزب الشيوعي اكثر من العمل لتحقيقها.

الدليل على ذلك أنه في أوائل آب/ أغسطس 1958، اي بعد أسبوعين من نجاح الثورة حضر ميشيل عفلق أمين عام حزب البعث الى بغداد والتقى قيادات الحزب ـ فرع العراق، وقال لهم: يجب ان تكون مسألة تحقيق الوحدة مطلبكم الرئيسي، وإذا قالوا لكم إن الوحدة ستحصل غدا قولوا بل اليوم، وإذا قالوا لكم اليوم قولوا بل الآن. في حين رفض التيار الذي يقوده الحزب الشيوعي ذلك المطلب، وانضم إليه الحزب الديمقراطي الكردستاني. ولكن وبسبب الزخم الشعبي الكبير للأصوات المطالبة بالوحدة الفورية، ادعى التيار اليساري المناهض بأنه يفضل الاتحاد والتعاون على الوحدة الإندماجية.

في حين نقل عن بعض قيادات الحزب الشيوعي الذي التقوا بسكرتير عام الحزب (سلام عادل) صبيحة يوم الثورة أنه رد على تهانيهم له بنجاح الثورة بقوله: إن هذه التهنئة مبكرة، إذ أن لدينا معركة أكبر مع دعاة المطالبة بالوحدة. وهكذا أصبحت فكرة الوحدة الفورية عاملا لإثارة الشارع أكثر من كونها هدفا وطنيا، ولأسباب لا تتعلق بالإيمان بها. كما استغل التيار القومي هذه القضية وصعدها في صراعه مع الحزب الشيوعي الذي ظهر أن نفوذه قد تصاعد كثيرا، خاصة بعد كشف العلاقة القوية التي كانت تربط قياداته مع عبد الكريم قاسم ومجموعة الضباط اليساريين المحيطين به.

بكلمة أخرى إن قادة البعث والتنظيمات القومية الأخرى أرادوا الوحدة كي يدعموا تنظيمهم بمدد قومي عربي كانوا سيحصلون عليه إن حصلت ويجعلون الحزب الشيوعي في أقلية، وليس بسبب إيمانهم المطلق بالوحدة. وخير دليل على ذلك أن قيادة حزب البعث التي كانت تحث التنظيم في العراق على المطالبة بالوحدة الفورية انقلبت على تلك الوحدة بعد فترة قصيرة من قيامها عندما سحب الوزراء البعثيون من حكومة الوحدة في أيلول/ سبتمبر 1959، ثم زاد الحزب على ذلك الموقف أن قام بالاعتراف بالحركة الإنفصالية (أيلول/ سبتمبر 1961) بل وتعاون مع الحكومة الإنفصالية. (هذا الموقف وَتَّرَ العلاقة بين حزب البعث والرئيس عبد الناصر، وخلق عند الأخير مرارة وموقفا غير ودي تجاه حزب البعث ظل ملازما له حتى وفاته).

من ناحيته فإن التيار القومي المدني في العراق، والذي كان لايزال يبحث عن قيادة متمكنة له، ارتكب خطأ كبيرا عندما ظل يعول على مجموعة الضباط المحسوبين على التيار القومي، (أو الذين يمتلكون نَفَساً قومياً) على أساس أنهم وحدهم القادرون على توفير الفرصة الأسرع للوصول إلى الحكم. وظل التيار القومي يأتي ثانيا بعد حزب البعث، حتى بعد أن انشقت قيادات وكوادر متقدمة من الحزب، (وبالأخص أمين عام القيادة القطرية في العراق فؤاد الركابي)، واصطفت إلى جانب عبد الناصر، وذلك بسبب حسن تنظيم البعثيين والتزامهم بحزبهم.

إن قادة البعث والتنظيمات القومية الأخرى أرادوا الوحدة كي يدعموا تنظيمهم بمدد قومي عربي كانوا سيحصلون عليه إن حصلت ويجعلون الحزب الشيوعي في أقلية، وليس بسبب إيمانهم المطلق بالوحدة.
وبدلا من أن تشكل هذه الإنشقاقات دعما لتنظيم قومي متمكن، إلا أنها زادت من تشرذمها، وذلك لسببين: الأول أن أغلب المنشقين شكلوا تنظيماً جديداً غير منسجم (التجمع القومي العراقي في القاهرة)، والثاني أن أغلب قياداتهم انتقلت إلى القاهرة تاركة الساحة لحزب البعث. وحتى عندما شكل الركابي تنظيماً قومياً جديدا آخر خاصا به، فإن عمله لم يفلح في جعل تنظيمه فعالا.

لعل أكبر ضربة موجعة وجِهت للتيار القومي ـ البعثي في العراق في ظل نظام عبد الكريم قاسم جاءت نتيجة لفشل حركة العقيد عبد الوهاب الشواف، والتي عُرِفت باسم (ثورة الموصل 8 آذار/ مارس 1959)، حيث نتج عنها إعدام 29 ضابطاً ومدنياً من التيار القومي. أضف إلى ذلك فإن مدينة الموصل، المعروفة بتوجهات أبنائها القومية والإسلامية، استُبيحت بالكامل ولعدة أسابيع بعد فشل الثورة، من قبل مسلحي الحزبين الشيوعي والديمقراطي الكردستاني. وتم خلال تلك الفترة ارتكاب عمليات تصفية دموية وعشوائية ضد كل من اعتبر مؤيدا للأفكار القومية، مدنيين وعسكريين، نساءا ورجالا، على حد سواء.

ويبدو أن الهدف الأساس كان لجعل الموصل عبرة لكل من يقف بوجه التيار الشيوعي، ولإنهاء أي مطالبة بالإنضمام لوحدة مصر وسوريا، وتغليف كل ذلك بالدفاع عن (الجمهورية الفتية). ثم اُرتُكِبَت مذبحة أخرى من قبل نفس الأطراف (الشيوعي والكردستاني) في كركوك في نفس السنة. وانتشرت بعد ذلك حملات ترويع وسحل وسجن ومطاردة لكل من اعتبر من أنصار الاتجاه القومي الوحدوي، وأطلق على تلك الفترة (مرحلة المد الأحمر).

من ناحيته اعتبر الحزب الشيوعي (نجاحه) في القضاء على ثورة الموصل نجاحا مزدوجا: فمن ناحية أنه أسقط بالكامل فكرة الوحدة، وهذا كان وضاحاً في الهتافات التي كانت ترددها تظاهراتهم الكبيرة، وخاصة ذلك الذي كان يقول (جمهوريتك يا كريم [عبد الكريم قاسم] مستحيل تصير إقليم)، أي اقليم ثالث الجمهورية العربية المتحدة.  ومن الناحية الأخرى اعتبره الحزب مبررا كافيا للمطالبة الصريحة للمشاركة في الحكم. وبدأت هذه الحملة بهتاف مدوي ردده المشاركون في مسيرة شعبية ضخمة في شارع الرشيد في احتفالات عيد العمال العالمي 1 أيار 1959، والذي يقول: (عاش زعيمي عبد الكريمي حزب الشيوعي بالحكم مطلب عظيمي). في حين أن أنصار التيار القومي اعتبروا ثورة الشواف وقادتها رمزا للعمل القومي، والمحاكمات التي تلتها منبرا للتعبير عن الأراء القومية، ومعتبرين الشهداء الذين اعدموا او قتلوا رموز وشهداء العمل والنضال القومي.

المضحك المبكي في الأمر أن العقيد عبد الوهاب الشواف الذي قاد الحركة، وهو أحد أعضاء تنظيم الضباط الأحرار الذي خطط ونفذ ثورة تموز، كان معروفا بكونه يساريا ولديه علاقة جيدة وحتى نوع من الإرتباط بالحزب الشيوعي العراقي، وأن تحركه كان لسببين أساسيين بعيدين كل البعد عن التوجهات القومية ـ الوحدوية:

الأول نبع من إصرار عبد السلام عارف، الذي كان له موقف سلبي منه بسبب يساريته، على عدم منح الشواف أي منصب في وزارة الجمهورية الجديدة بعد الثورة، ولا حتى ضمن قيادات وزارة الدفاع. واستطاع أن يقنع عبد الكريم قاسم بتعيين الشواف آمرا لموقع الموصل، وهو منصب ثانوي حتى في القيادة العسكرية. كل ذلك خلق في نفس الشواف مرارة شديدة، ناهيك عن اعتباره للتعيين بمثابة إبعاد له.

أكبر ضربة موجعة وجِهت للتيار القومي ـ البعثي في العراق في ظل نظام عبد الكريم قاسم جاءت نتيجة لفشل حركة العقيد عبد الوهاب الشواف، والتي عُرِفت باسم (ثورة الموصل 8 آذار / مارس 1959)، حيث نتج عنها إعدام 29 ضابطاً ومدنياً من التيار القومي.
والسبب الثاني أنه، بصفته مسؤولاً عسكرياً عن الأمن والإستقرار في الموصل، اعتبر إصرار الحزب الشيوعي على إقامة احتفالات يسارية (مهرجان أنصار السلام)، وتحشيد تظاهرات من كل أنحاء العراق لكي تشارك وتجوب شوارع الموصل، المدينة المعروفة بأنها محافظة وبتوجهات أبنائها القومية والإسلامية ورفضهم الشديد لذلك المهرجان، اعتبرها الشواف عملية استفزازية الهدف منها إرعاب أبناء الموصل بسبب توجهاتهم ورفضهم للنفوذ الشيوعي ونفوذ الحزب الكردستاني في المدينة.

فشلت كل محاولات الشواف في إقناع عبد الكريم قاسم بضرورة إلغاء أو تأجيل تلك الإحتفالية بسبب حساسية الموقف، واستمر تدفق الشيوعيين وانصارهم على المدينة. من جانبهم أظهر قادة حزب البعث والضباط القوميين، المعارضين لهيمنة قاسم المطلقة على الحكم ولتحالفه مع الحزب الشيوعي، تضامنهم مع الشواف نكاية بالنفوذ الشيوعي المتزايد.

كما دخلت سوريا على الخط من خلال توسط ضباط قوميين عراقيين وقيادة حزب البعث في العراق، ودعمت من خلال اجهزة أمنية سورية الحركة بجهاز إرسال إذاعي وبعض الأسلحة. وأصبحت مدينة الموصل بين ليلة وضحاها مركز الصراع والتنافس القومي ـ الشيوعي في العراق. صحيح أن الأمر انتهى بإفشال ثورة الموصل ومقتل الشواف والتنكيل بعدد لا يستهان به من ضباط وأبناء الموصل من أصحاب الفكر القومي او البعثي، إلا أن الواقع يقول إن ما جرى من أحداث في الموصل أثناء الثورة وما تلاها من إعدامات، وضع الأساس لإسقاط نظام عبد الكريم قاسم وللمذابح الأخرى التي ارتكبت ضد الشيوعيين واليساريين من قبل حزب البعث بعد ذلك.

إقرأ أيضا: جذور الحركة القومية العربية في العراق.. معطيات ومبادئ

إقرأ أيضا: أثر الحصري وبعثيي سوريا ونكبة فلسطين في نشأة قوميي العراق

التعليقات (0)