قضايا وآراء

تجاذبات الحوار الوطني وضحاياه

قطب العربي
كانت دعوة السيسي إلى الحوار الوطني لاستثمار اللقطة- الرئاسة المصرية
كانت دعوة السيسي إلى الحوار الوطني لاستثمار اللقطة- الرئاسة المصرية
أخيرا وبعد مرور أكثر من عام على الإعلان عنه انطلقت الجلسة الافتتاحية للحوار الوطني في مصر، بكلمة مسجلة للسيسي، وكلمات لشخصيات سياسية كبرى من معسكر 30 يونيو، وهو المعسكر الذي شمله الحوار دون غيره، وبهدف إعادة إحيائه ولملمة صفوفه، وتضميد بعض جراحاته التي أحدثها النظام الحاكم نفسه، والذي استغل هذا المعسكر فقط لإسقاط حكم الرئيس مرسي، وعودة الجيش مجددا للحكم المباشر.

ظلت فكرة الحوار الوطني ومن ثم تطوراته اللاحقة تتأرجح صعودا وهبوطا حسب توازنات قوى داخل النظام، وتوازنات إقليمية ودولية، وعلاقات النظام بتلك التوازنات والتحالفات، وحين جاءت الدعوة للحوار في رمضان قبل الماضي كان النظام يشعر بأزمة اقتصادية كبرى، كما كان يتأهب لاستضافة القمة العالمية للمناخ في شرم الشيخ، وكان يستهدف جذب قادة عالميين كبار إليها لتخفيف الضغوط عليه.

فكرة الحوار الوطني لإرسال رسالة للخارج بأن النظام المصري يسير في طريق الانفتاح السياسي. وما إن انتهت قمة المناخ حتى التقط النظام أنفاسه خاصة بعد اجتيازه للضغوط المصاحبة لها بشأن الإفراج عن الناشط السياسي علاء عبد الفتاح، وكذا بعد زيارة السيسي لواشنطن لاحقا. كانت الدعوة للحوار إذن مجرد لقطة أولية لتحقيق هدف مرحلي، وستتكرر هذه اللقطة كلما احتاج النظام إليها
ومن هنا، كانت فكرة الحوار الوطني لإرسال رسالة للخارج بأن النظام المصري يسير في طريق الانفتاح السياسي. وما إن انتهت قمة المناخ حتى التقط النظام أنفاسه خاصة بعد اجتيازه للضغوط المصاحبة لها بشأن الإفراج عن الناشط السياسي علاء عبد الفتاح، وكذا بعد زيارة السيسي لواشنطن لاحقا. كانت الدعوة للحوار إذن مجرد لقطة أولية لتحقيق هدف مرحلي، وستتكرر هذه اللقطة كلما احتاج النظام إليها، وهو ما تكرر بالفعل في عقد الجلسة الافتتاحية للحوار مؤخرا بحضور رئيس الحكومة مصطفى مدبولي وبعض المسئولين الآخرين.

منذ انطلاق فكرة الحوار ظهر بوضوح تباين التقديرات بين جناحي الأمن، (المخابرات العامة والأمن الوطني)، وكلاهما يتحرك لتعزيز وضع النظام واستمراره، وقد كانت الأولى (المخابرات العامة) هي صاحبة فكرة الحوار، منطلقة في دعوتها من خبرتها القديمة في ضرورة وجود قدر من التنفيس لمنع الانفجار، بينما كان جهاز الأمن الوطني معارضا لهذا الحوار انطلاقا من قناعاته أيضا بأن أي تنفيس يسمح باتساع الخرق، ويشجع على المزيد من المطالب التي تنتهي بتحرك جماهيري قوى لا تستطيع الأجهزة الأمنية مواجهته كما حدث في ثورة يناير 2011.

وبين الموقفين يتأرجح موقف السيسي نفسه، الذي ينحاز أحيانا لرأي المخابرات فيوافق على انطلاق الحوار، أو تشكيل أو إعادة إحياء لجنة العفو الرئاسي، ثم تغلبه المخاوف التي يثيرها الأمن الوطني فيوافق على إبطاء هذا الحوار، ويغض الطرف عن عرقلة هذا الجهاز المتعمدة للحوار عبر رفض مطالب القوى السياسية بالإفراج عن قوائم معتقلين تم إعدادها بالتنسيق مع المخابرات، أو عبر اعتقال المزيد من الرموز السياسية والإعلامية أو عموم النشطاء، كما حدث مؤخرا من اعتقال 4 ناشطات يساريات، والصحفي حسن القباني يوم انطلاق الحوار الوطني، وأخيرا اعتقال خال وعم المرشح الرئاسي المحتمل أحمد طنطاوي؛ الذي كان يعتزم العودة إلى مصر يوم أمس السبت غير أنه قرر إرجاء موعد عودته.

هؤلاء المعتقلون، سواء من تم الإفراج عنهم أو من استمروا في محابسهم، هم ضحايا خلافات الأجهزة الأمنية، التي يريد كل جهاز منها أن يسجل هدفا في مرمى الطرف الآخر، ويكون الإعلاميون أو النشطاء السياسيون أو أقاربهم هم كرة الشراب التي يتقاذفونها بأرجلهم.

المخاوف دفعت الحركة المدنية وشخصيات أخرى للمشاركة، وإن حاولت تبرير مشاركتها بمبررات أخرى مثل احترامها لقيمة الحوار، أو حتى لا تتهم بالمسئولية عن فشل الحوار، أو حتى لا يقال إنها غابت عن فرصة قد تتيح مخرجا من الأزمة؛ وفقا لكلمة ممثلها فريد زهران رئيس الحزب الديمقراطي الاجتماعي
"الحركة المدنية" التي قبلت المشاركة في الحوار وحضرت جلسته الافتتاحية رغم عدم الاستجابة لمطالبها، فعلت ذلك خوفا وطمعا؛ أما الخوف فمن العواقب حال رفضها المشاركة، حيث تنتظرها السجون وقوائم الإرهاب وإغلاق الأحزاب والمقرات، ولم يغب عنها اعتقال المتحدثين السابق واللاحق للحركة المدنية يحيي حسين وخالد داوود (قبل الإفراج عنهما)، ولا اعتقال شخصيات كبرى من معسكر 30 يونيو ذاته الذي يستهدف الحوار لملمة أشلائه، مثل عبد المنعم أبو الفتوح، والمستشار هشام جنينة، والدكتور حازم حسني، والدكتور حازم عبد العظيم، والدكتور يحيي القزاز، والسفير معصوم مرزوق، وآخرين، كما لا يغيب عنها الاعتداء البدني المباشر والذي استهدف قادتها وكوادرها في إفطار رمضاني قبل 3 أعوام، ولا يغيب عنها محاصرة أحزابها داخل مقراتها.. الخ.

هذه المخاوف دفعت الحركة المدنية وشخصيات أخرى للمشاركة، وإن حاولت تبرير مشاركتها بمبررات أخرى مثل احترامها لقيمة الحوار، أو حتى لا تتهم بالمسئولية عن فشل الحوار، أو حتى لا يقال إنها غابت عن فرصة قد تتيح مخرجا من الأزمة؛ وفقا لكلمة ممثلها فريد زهران رئيس الحزب الديمقراطي الاجتماعي.

والسبب الثاني وربما الأقل للمشاركة في الحوار هو الطمع في تحقيق بعض المكتسبات الديمقراطية حتى لو كانت قليلة، مثل الإفراج عن بعض السجناء، أو فتح وسائل الإعلام أمام الأصوات المعارضة أو المستقلة.. إلخ، وفي الحد الأدنى الحصول على ضمانة لحماية المشاركين أنفسهم أو لأحزابهم وكوادرها من أي ملاحقة أمنية كما يحدث مع غيرهم.

ثمة اتفاق ضمني بين المشاركين في الحوار من معسكر 30 يونيو مع النظام الحاكم في أن أحد الأهداف الرئيسية للحوار هو إعادة لملمة صفوف هذا التحالف الذي تصدع بفعل ضربات النظام نفسه، علما أن جزءا منه فقط دُعي للحوار بينما استُبعد آخرون.

يستهدف النظام من إعادة ترميم الحلف أو جزء منه ليشاركه تحمل المسئولية عن السياسات الحالية والمستقبلية، أو ليتخذه ظهيرا في الانتخابات الرئاسية المقبلة، أو حتى ليرتب معه مسرحية الانتخابات لتظهر بشكل أكثر إحكاما
ويستهدف النظام من إعادة ترميم الحلف أو جزء منه ليشاركه تحمل المسئولية عن السياسات الحالية والمستقبلية، أو ليتخذه ظهيرا في الانتخابات الرئاسية المقبلة، أو حتى ليرتب معه مسرحية الانتخابات لتظهر بشكل أكثر إحكاما، كأن يفوز السيسي بنسبة 70 في المئة بدلا من نسبة الـ97 في المئة السابقة؛ مقابل توزيع النسبة الباقية على مرشحين أو ثلاثة من تلك القوى المشاركة، مع وعد بتقديم التسهيلات اللازمة لترشحهم للقيام بدور الكومبارس. وهو أمر قد يقبل به البعض، وإن لم يقبل به آخرون يرفضون لعب دور الكومبارس ويسعون لمنافسة حقيقية حتى لو كانت نتيجتها خسارتهم.

رغم انطلاق الحوار الوطني فعليا، إلا أن التجاذبات بين أجنحة النظام حوله لن تتوقف؛ بين فريق يريد المضي به قدما إلى الأمام وفق خطوات شكلية مرسومة بدقة وصولا إلى موعد الانتخابات الرئاسية المقبلة، لتكون مخرجاته التي سيتم صياغتها في مكتب السيسي أو بمعرفته هي برنامجه الانتخابي، وفريق لن يتوقف عن محاولات عرقلة هذا الحوار خوفا أن يفلت عياره، ويفتح كوة في جدار الصمت والاستبداد تتسع شيئا فشيئا وقد تخرج في لحظة ما عن السيطرة.

وبين هذا الشد والجذب سيستمر تساقط الضحايا المدنيين، وبدلا من هذا الحوار الهزلي فإن حوارا وطنيا جادا، لا يقصي أحدا، ويكون برعاية جهة موثوقة من الجميع، وبضمانات كافية لحرية النقاشات، والالتزام بالتوصيات، قد يكون طريقا آمنا للتحول الديمقراطي من الحكم العسكري إلى الحكم المدني.

twitter.com/kotbelaraby
التعليقات (0)