قضايا وآراء

النيجر إلى أين؟

عبد الرزاق مقّري
لن تستطيع فرنسا ـ ومن ورائها أمريكا ـ إبقاء نفوذها في النيجر والمنطقة إلى الأبد، إذ التطورات الدولية والإقليمية والمحلية لا تسير في صالحها.. الأناضول
لن تستطيع فرنسا ـ ومن ورائها أمريكا ـ إبقاء نفوذها في النيجر والمنطقة إلى الأبد، إذ التطورات الدولية والإقليمية والمحلية لا تسير في صالحها.. الأناضول
النيجر بلد استقرت فيه المحن منذ أن وطأت أقدام الاستعمار الفرنسي أرضه، وبعد الاستقلال سنة 1960 الذي كان من أسبابه أن تمسك فرنسا الاستعمارية باستمرار احتلال الجزائر في مواجهة زخم الثورة التحريرية النوفمبرية دفعها إلى التخفف من عبء الاستعمار في العديد من الدول الأفريقية في إطار التبعية لها بعد الاستقلال.

 وبعد الاستقلال بقيت النيجر من أفقر الدول في العالم رغم أنها سابع منتج لليورانيوم في العالم وموقد المفاعلات النووية الفرنسية والكثير من الصناعات وإنتاج الكهرباء لصالح الشعب الفرنسي وحكوماته.

بقيت فرنسا هي الآمر الناهي لهذا البلد، من خلال مؤسساتها الاستغلالية لخيرات النيجر وعلى رأسها شركة "أريفا"، ومن خلال قواعدها العسكرية ومؤسساتها الأمنية والإدارية، وبربط عملتها الوطنية بالبنك المركزي الفرنسي.

ومن وراء فرنسا ظلت أمريكا، قائد المعسكر الغربي، تتحكم في اللعبة بمجملها في منطقة الساحل كله من خلال قاعدتيها العسكريتين في النيجر، وفي دول أفريقية أخرى، لمحاربة الإرهاب (!) ومواجهة تمدد النفوذ الصيني والروسي والتركي والإيراني في أفريقيا.

أدت السياسات الاستعمارية في أفريقيا، خصوصا في إفريقيا الغربية ضحية الاستعمار الفرنسي، أكثر أنواع الاستعمار وحشية وتدميرا للكيان الآدمي للإنسان، إلى انتشار الفقر المدقع للشعوب، وديمومة التخلف بكل أنواعه، مع استمرار حكمها من أنظمة دكتاتورية مرتشية ومرفحة وضعتها وحافظت عليها القوى الأمنية والعسكرية الفرنسية بدعم دائم من أمريكا.

استطاعت فرنسا أن تدمر البنى الثقافية والاجتماعية المحلية في دول أفريقيا الغربية وجعلت لغتها هي لغة التفاهم بين المكونات القبلية المختلفة داخل البلد الواحد، ولغة الإدارة والتعليم والاقتصاد والعلاقات الدولية، وبنت لنفسها شبكات اخطبوطية من المصالح والتبعية الثقافية داخل المؤسسات الرسمية وفي المجتمع، وصنعت لوبيات قوية من الأفارقة والأوربيين المقيمين تدافع عن مصالح فرنسا ومكانتها.
لقد أدى هذا الوضع في آخر المطاف إلى يقظة وطنية لدى كثير من المثقفين والنخب الأفريقية خصوصا لدى الشباب. ولما بدأ النظام الدولي يتغير ببداية نهاية الأحادية الدولية الغربية الأمريكية وبروز معالم نظام دولي جديد متعدد الأقطاب صنعه صعود الصين وروسيا والهند خصوصا ثم تركيا وجنوب أفريقيا والبرازيل مثَّل ذلك هوامش مناسبة للقوى الوطنية الافريقية لكي تتخلص من عبء التحكم الاستعماري الفرنسي في أفريقيا الغربية، والاستعمار الغربي بشكل عام في أفريقيا.

 وحيث أن روسيا هي الدولة ذات الطموح الاستراتيجي الأكبر والتجربة القديمة في أفريقيا أثناء الحرب الباردة فقد وجدت سهولة أكبر للانتشار العسكري غير المباشر من خلال مرتزقة فاغنر، وقد حظي  وجودها بترحيب حذر  لدى القوى الدولية والاقليمية الجديدة الصاعدة المتعاونة بينها في مواجهة الهيمنة الغربية في منظمتي شنغهاي الأمنية والبريكس الاقتصادية.

ليس من السهولة بمكان الاعتقاد بأن زعزعة النفوذ الفرنسي في أفريقيا الغربية أمر سهل المنال.

لقد استطاعت فرنسا أن تدمر البنى الثقافية والاجتماعية المحلية في دول أفريقيا الغربية وجعلت لغتها هي لغة التفاهم بين المكونات القبلية المختلفة داخل البلد الواحد، ولغة الإدارة والتعليم والاقتصاد والعلاقات الدولية، وبنت لنفسها شبكات اخطبوطية من المصالح والتبعية الثقافية داخل المؤسسات الرسمية وفي المجتمع، وصنعت لوبيات قوية من الأفارقة والأوربيين المقيمين تدافع عن مصالح فرنسا ومكانتها.

لا شك أن الولايات الأمريكية المتحدة هي زعيمة المعسكر الغربي وحامية الليبيرالية الغربية ونظامها الرأسمالي الاستغلالي ولكنها تتحكم في العالم بالشراكة مع الدول الأوربية، وتوكل لكل بلد أوربي جهة جغرافية وفق المعطيات التاريخية والخلفيات الاستعمارية القديمة وقوة النفوذ وتأثيره، وفي هذا الإطار تقع افريقيا الغربية ضمن النفوذ الفرنسي تحت الرعاية الأمريكية على قاعدة تبادل المصالح وتقاسم النفوذ والموقف المشترك ضد القوى الدولية والاقليمية والمحلية الأخرى المناهضة للغرب.

لم يكن أحد من المتابعين للشأن النيجيري والإفريقي يصدق بأن الانتقال الديمقراطي السلس بين الرئيس السابق محمد إيسوفو والرئيس الحالي محمد بازوم في أبريل 2021 كانت عملية ديمقراطية كاملة الأركان، وإنما كانت الأيادي الفرنسية بادية ومؤثرة، وقد تم طمأنة الدول المجاورة وعلى رأسها الجزائر التي رحبت بالانتقال وساندت الوافد الجديد واستقبلته في العاصمة الجزائرية واعتبرت أن مقدمه فرصة لتطوير العلاقة بين البلدين واستعادة الجزائر مكانتها التي كانت عليها في دول الساحل الافريقي.

غير أن الرئيس محمد بازوم، المتهم بالميولات الفرنسية، خلافا للمزاج الشعبي المتصاعد ضد فرنسا في المنطقة، والمنتمي لعمق قبلي ضعيف في النيجر ذهب بعيدا في محو آثار الرئيس السابق إيسوفو  الحريص على البقاء في اللعبة من خلف المشهد من خلال نفوذه في المؤسسة العسكرية وفي حاضنته القبلية القوية.

وعلى هذا الأساس يعتبر كثير من المحللين من داخل النيجر بأن المعركة القائمة هي معركة نفوذ أكثر منها انقلاب عسكري كامل، والهدف من تدخل الحرس الرئاسي المسنود لاحقا من قادة الجيش في مجملهم هو التوصل إلى ميزان قوة يحفظ استمرار نفوذ إيسوفو  ويُبقي على رئاسة بازوم، ولعل السعي المعلن  للرئيس السابق إلى الوساطة لحل الأزمة يدخل في هذا السياق.

ربما لم تحسب مكونات الصراع الداخلي، أثناء شروعهم في المواجهة ضمن الأحداث الجارية في النيجر أهمية بلدهم الاقتصادية والجيوستراتيجية بالنسبة للأطراف الدولية المتصارعة وأن العالم دخل في حرب باردة جديدة قد تصبح دول الأطراف الضعيفة هي ساحتها، إذ كان رد الفعل الغربي ضد الانقلاب حاسما وقويا من خلال المواقف الدبلوماسية والتصريحات الرسمية لفرنسا والولايات الأمريكية والاتحاد الأوربي، وعبر التهديد بوقف المساعدات، ولكن خصوصا من خلال التهديدات الميدانية بالتدخل المباشر كما فهمه المجلس العسكري - الذي شكله الانقلابيون - من أن مجموعة دول الإكواس تجتمع بغرض وضع خطة لتدخل عسكري غربي-افريقي في نيامي وأن النيجيريين عازمون على الدفاع عن بلدهم، جيشا وشعبا.

قد لا يكون قادة الانقلاب، والقوى العسكرية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية التي خلفهم، أقل تأثرا بالثقافة الفرنسية وارتباطا بمصالحها، ولكن لعبة الصراع السياسي وانحياز فرنسا والغرب للرئيس بازوم، يدفعهم للقوة الجاهزة لمواجهة النفوذ الغربي وهي روسيا، عبر مرتزقة فاغنر، وبالفعل أعلن بريغوجين ـ المثير للجدل ـ تأييده للانقلاب واستعداده للدعم.

عتبر كثير من المحللين من داخل النيجر بأن المعركة القائمة هي معركة نفوذ أكثر منها انقلاب عسكري كامل، والهدف من تدخل الحرس الرئاسي المسنود لاحقا من قادة الجيش في مجملهم هو التوصل إلى ميزان قوة يحفظ استمرار نفوذ إيسوفو ويُبقي على رئاسة بازوم، ولعل السعي المعلن للرئيس السابق إلى الوساطة لحل الأزمة يدخل في هذا السياق.
لا يمكن للتدخل الأجنبي أن يحل الأزمة، بل قد يجعلها تتحول إلى حرب أهلية كما حدث في ليبيا واليمن وسوريا وغيرها من الدول في العالم، كما أن الانقلاب أمر سيء ولا يمكن للعسكر أن يصلحوا البلاد إذا بقيت السياسة في يدهم فليس ذلك اختصاصهم ولا ذلك من حقهم ولا شرعية لهم فيه ـ وإن كان هذا السيناريو هو الأوفر حظا إذ ليس من عادة المتغلب أن يترك الحكم إن لم يجبر على ذلك، والقوة تلغي عادة الحكمة ـ كما أن استمرار  النفوذ الغربي والفرنسي تدمير مستدام للشعب النيجيري وشعوب المنطقة.

ولذلك يكون الحل الأنسب هو التوافق بين مختلف القوى الوطنية النيجيرية على قاعدة السيادة الشعبية ونبذ التدخل والنفوذ الأجنبي بكل أنواعه والمضي وفق ذلك إلى بناء دولة ديمقراطية عصرية ضمن إطار ثقافة البلد،  وأبعاده الحضارية الإسلامية التي لم يكن للنيجر تاريخ دولي قوي مستقل ومؤثر قبل الاستعمار بغيره (راجع تاريخ الامبراطوريات الإسلامية الافريقية التي لها علاقة بالنيجر قبل الاستعمار).

لن تستطيع فرنسا ـ ومن ورائها أمريكا ـ إبقاء نفوذها في النيجر والمنطقة إلى الأبد، إذ التطورات الدولية والإقليمية والمحلية لا تسير في صالحها، كما أن روسيا لن تقدر على غرس وجود عميق ودائم يقابل عمق الوجود الفرنسي، ولن يكون لها - على المدى المنظور - دعم دولي يشاركها المغامرة، فالصين لا تهمها في المرحلة الراهنة سوى التجارة والمنشآت القاعدية لنقل البضائع والمواد الأولية، وقلب المعادلة الاقتصادية كلية من خلال منظمة البريكس لا يزال أمامه سنوات طويلة، كما أن صراع المصالح بين الدول المنقطعة ثقافيا وجغرافيا عن المنطقة لا يزيد شعوب هذه الأخيرة سوى إرهاقا وتخلفا.

ولئن كان الحل على المدى القريب هو في التوافق النيجيري ـ النيجيري بعيدا عن التدخل الأجنبي، ربما برعاية أفريقية سيادية، فإن الحل على المدى البعيد هو قيام الدول العربية في شمال أفريقيا بدورها التاريخي في دعم دول جنوب الصحراء الكبرى في شرق أفريقيا وغربها، والطريق إلى ذلك هو نهضة دولتين أساسيتين بما يجعلهما قادرتين على التحول إلى دولتين راشدتين لصالح شعبيهما سياسيا واقتصاديا وفي كل ما يتصل بمفهوم النهضة والاقلاع الحضاري ثم لصالح أشقائهم في أفريقيا الغربية والشرقية.

أما الدولة الأولى التي تحتاجها النيجر وكل دول أفريقيا الغربية فهي الجزائر، التي كان لها دور وتأثير كبير في العديد من الدول الأفريقية بفعل الثورة التحريرية ودعم حركات التحرر، ثم الدعم الاقتصادي الطاقوي والمالي والتعليمي والدبلوماسي وفي حل الأزمات السياسية  لسنوات عديدة. ولكن مع مرور الزمن صارت اضطرابات الدول الأفريقية تمثل خطرا كبيرا على الجزائر حين استحكمت الأزمات المتلاحقة في هذا البلد الشاسع الذي تحده خمس دول منذ انهيار أسعار البترول في منتصف الثمانينات والأزمة السياسية والأمنية في التسعينيات، إلى غاية أزمة ما قبل الحراك الشعبي إلى اليوم، علاوة على أزمة العلاقة مع المغرب التي زادها تحالف المخزن مع الكيان الص@يوني تعقدا بين البلدين وفي أفريقيا.

إن المخاطر الآتية من جنوب الصحراء الكبرى على الجزائر  كثيرة ومتنوعة منها ما هو أمني بسبب الشبكات الدولية الكبرى لتهريب السلاح والمخدرات والإرهاب والاتجار بالبشر بين القارات عبر رواق الساحل الافريقي العريض من المحيط الأطلسي إلى البحر الأحمر والمحيط الهندي، ومنها ما يتعلق بالهجرة غير الشرعية التي تتجه لتحويل الجزائر إلى بلد استقبال بعد أن كان بلد عبور نحو أوربا بفعل الضغوطات الأوربية وسياساتها المانعة للهجرة، علاوة على أن مخططات الهجرة غير الشرعية من الدول الأفريقية إلى الجزائر هي مخططات حربية ضد هذا البلد وفق ما تقوله بعض المصادر الأمنية الجزائرية.

وعليه فإن من مصلحة الجزائر أن تتحول إلى اللاعب الأساسي الأول في دول جنوب صحرائها الكبرى، غير أنها لن تستطيع أن تفعل ذلك وحدها، في ظل الصراعات الدولية الكبرى في أفريقيا، ولكن من خلال تحقيق وحدة شمال أفريقيا الذي ينص عليه بيان أول نوفمبر، ومساهمتها في هذا المشروع أن تسعى بجد لتحقيق وحدة المغرب العربي، وهي قادرة على ذلك إذا حققت نهضتها العلمية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية وارتفعت فوق صراع الندية مع المغرب الذي لا يملك الإمكانيات الجبارة التي تملكها الجزائر في كل الأحوال، لتكون الجزائر هي الشقيقة الكبرى، وفق العبارة التي ابتكرها الشيخ راشد الغنوشي أطلق الله سراحه، رحيمة معينة رافعة لجيرانها، يلجأ إليها أشقاؤها بدل لجوئهم للكيان الصـهيوني والقوى الاستعماربة الغربية.

وأما البلد الثاني القادر على تحقيق وحدة شمال أفريقيا فهي مصر الكنانة، هذه الدولة العظيمة ذات التاريخ العريق والحضور الإسلامي الشاهد والمؤسسات العريقة والمقدرات السكانية والجغرافية والطبيعية الجبارة، فلو نهضت مصر ستقود كل دول النيل وأفريقيا الشرقية.

إن الخصائص التي تعضد هذه الرؤية على المدى البعيد كبيرة، منها الأبعاد الدينية والحغرافية والتاريخية والمصالح المشتركة والمصير الواحد والفرص الاقتصادية العظيمة، يكفي ان تنهض مصر والجزائر ليتحقق هذا الحلم، وستكون عدئذ كل الدول العربية الأخرى، وكذا دول العالم الإسلامي في القارة الآسوية داعمة لها، في إطار التكامل بين دول العالم الإسلامي وليس التنافس والاحتراب كما هو الحال اليوم.
التعليقات (1)
الحفر
الثلاثاء، 01-08-2023 02:52 ص
متى كانت الحفرةالجزائرية أوالمصرية حرة حتى تدعم حركات التحرر؟؟ نحن مسؤولون أمام الله و العباد على ما نقول ،الإستدمار الغربي لم يخرج قط من بلادننا و السبب فينا نحن لا غير. إستطاع الصهاينة تحريم كلمة "الجهاد "من عقولنا فما بال الجهاد بالمال و العلم ....؟؟؟