كتب

محددات الهوية الوطنية السورية في ظل التحديات الكبرى.. قراءة في كتاب (3)

 قوة الدولة الوطنية تكمن في قدراتها على تسخير قوة العقل، وقوة الجسد عند الجميع؛ بوصف هاتين القوتين تنصبان على تطوير الذات الوطنية بعيداً عن مفاهيم الاستحواذ والاستغلال والسيطرة..
قوة الدولة الوطنية تكمن في قدراتها على تسخير قوة العقل، وقوة الجسد عند الجميع؛ بوصف هاتين القوتين تنصبان على تطوير الذات الوطنية بعيداً عن مفاهيم الاستحواذ والاستغلال والسيطرة..
الكتاب: "الثقافة الوطنية والتحديات الراهنة"
الكاتب: الدكتور حسين جمعة
الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق 2018
(302صفحة من القطع الكبير).

المواطنة الحرّة والمسؤولة


إن قوة الدولة الوطنية تكمن في قدراتها على تسخير قوة العقل، وقوة الجسد عند الجميع؛ بوصف هاتين القوتين تنصبان على تطوير الذات الوطنية بعيداً عن مفاهيم الاستحواذ والاستغلال والسيطرة والأنانية والإلغاء والإقصاء، وهو أساس النهوض؛ أي لا بد هنا من تبني عملية تربوية تعليمية ثقافية شاملة ومتكاملة؛ تستند إلى البرامج العلمية الموضوعية والكفاءة المعرفية؛ والقدرات المطلوبة للتقدم والتوزيع العادل للثروة في إطار الحقوق والواجبات؛ وإيجاد فرص العمل المناسبة، وإدارتها بشكل علمي؛ في ضوء تربية المشاركة الوطنية في نفوس المنخرطين بالعمل ومؤسساته مع أهمية تكوين ورشات عمل جماعية؛ ومشاركة واسعة في القرار؛ فلا يمكننا أن ندعو إلى وحدة الوطن في ظل التنوع إذا بقي التصور الفردي مسيطراً على الذات الإنسانية فأي عبقري مهما بلغت قدراته لا يمكنه أن يصنع شيئاً بمفرده؛ ما يثبت أن قوة الوطن بوحدة أبنائه، وفق الكفاءات والقدرات من جهة ووفق تكوين روح الفريق الواحد من جهة أخرى.

ثم إن هذا الاتجاه يخلق روح المنافسة بين الأجيال، وهي الروح التي تعزز ماهية التشاركية الوطنية، وتعلي من شأن العمل التطوعي؛ ما يعني أن تشجيع مفاهيم العمل التطوعي يعد فضاء للإنتاج وامتصاصاً لحالات الاحتقان الكثيرة ومظاهر العجز والتقصير التي يعاني منها كثير من أبناء الوطن. ولعل الانخراط في المنظمات الشعبية والنقابات المهنية ينظم مثل هذا العمل؛ ويزيد فعاليته في تقوية روابط العمل الوطني، ومن ثم الانتماء الوطني على أن نطور هذه المؤسسات الاجتماعية لتكون ملبية للحداثة التقدمية المتجددة.

وإذا كانت الدولة الوطنية حريصة على تطبيق سيادة القانون فإن واجبها بناء منظومة قيم العمل الخلقية، وتنمية ذلك في نفوس أبنائها، لكي يتحقق التطابق بين القول والفعل في إطار انبثاقه من الذات الفردية؛ في مراقبتها ومحاسبتها لنفسها على أي خطأ تقع فيه من أجل البدء بعملية تغيير نحو الأفضل.

تعد المواطنة الحرّة والمسؤولة، وفق مبدأ سيادة القانون، والحريات العامة أساس النهوض والتقدم؛ والعبور إلى المستقبل، على ألا يقع العقل نفسه في مطب التسلط والتزييف والمناورة التي خطفتها الأهواء والمصالح. فالعقل في ماهيته الأصيلة عضو محايد لدى الإنسان إذا لم تسيّره العصبيات والولاءات الفئوية أو الشللية وويل لصاحب العقل المعرفي إذا سخره لغير ما يخدم المجتمع ومنظومة القيم العليا وفي طليعتها المنظومة الوطنية والقومية.

وإذا كان الظلم والاستبداد في السلطة السياسية يؤدي إلى الانحراف الاجتماعي، والانحلال الخلقي، والضعف الاقتصادي والجمود الفكري فإنه يؤدي بالضرورة إلى تزييف الوعي الوطني أو تمزيقه؛ وخلخلة مفهوم الانتماء أو تحطيمه وإضعاف البنية الوطنية؛ ما يعني أن نتائجه الكارثية تصب في مصلحة الأعداء؛ علماً أنهم يشجعون هذا الأسلوب لإضعاف المجتمعات وقتل الروح الوطنية وتفتيت هويتها المشتركة؛ ومن ثم فهو من أخطر الأساليب في عالم الهيمنة التي تمارسها الدوائر الصهيو/ أمريكية لإبقاء الدولة الوطنية ثم الأمة العربية متخلفة؛ مشتتة؛ مختلفة؛ متصارعة.

لذا، لا بد من جعل المعرفة بممارسة الحرية؛ وتطبيق الديمقراطية وفق الروح الوطنية وعياً خلقياً سامياً، وليس صداماً قاتلاً؛ وخلافاً مهلكاً كما حذرنا منه من قبل عمر بن الخطاب في قوله: (متى ما يقرؤوا يتقروا، ومتى تقروا اختلفوا، ومتى اختلفوا ضرب بعضهم رقاب بعض) ثم إن الحرية تعد من الأولويات الموضوعية في الحياة الاجتماعية والسياسية؛ وإذا فقدت تعرض أي وطن أو أي مشروع للاهتزاز ثم الاضطراب والتنافر ثم الصراع.

إنَّ السنن الكونية كلها تؤكد قيمة العقل وتأثيره في عملية التحرر من الجهل والتخلف والانحدار والصراع والإرهاب والقتل، والعبودية التي تقهر الإنسان. فالبشر أنفسهم من أنتج ظاهرة الرّق والعبودية في تاريخهم؛ وفق أهواء ومصالح تتحكم بأرباب المجتمع في كل زمان ومكان؛ وإن اختلفت أساليب العبودية وأدواتها. ولذا قال الإمام علي : (إن آدم لم يلد عبداً ولا أمة وخاطب عمر بن الخطاب ولد عمرو بن العاص: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً). ولن يتحرر البشر من هذه الظاهرة إلا بالحكمة وتبني منهج العقل الذي يرتكز على منظومة القيم الخلقية؛ والإنسانية والمشاركة في المواطنة.

ولهذا كله فالحرية قرينة الإنسانية بوصفها حقيقة وجودية، وهي منبع الإبداع والابتكار إنها الحرية المسؤولة في الدولة الوطنية وثقافتها المتفاعلة مع ثقافة الآخر المنضبطة به. ما يوحي بأن هناك ازدياداً بالأمان والثقة في إطار المشاركة الوطنية المنفتحة على ثقافة الحوار. وما يؤسف له في هذا المقام أن عدداً من الناس فهموا مبدأ الحرية في الحياة فهماً مغلوطاً، حين ربطوه بحرية الذات الشخصية بعيداً عن الآخر وعن الذات الوطنية والقانونية التي تضبط كل أشكال الغرائز ولذا مارس قسم منهم الانحراف الثقافي؛ والسخف الإعلامي؛ والهوس الديني؛ والهرج السياسي؛ وكل أشكال الشعوذة في الرقص على حبال الحرية الذاتية. وساعدهم على ذلك كله عدد من الأنظمة الدولية في عالم يَدَّعي ممارسة الديمقراطية الشخصية وفق أصول تقدمية ومتطورة على حين هو مكبل بكل أصناف العبودية والاستعباد لرأس المال والإيديولوجيات والمافيات.

الحرية قرينة الإنسانية بوصفها حقيقة وجودية، وهي منبع الإبداع والابتكار إنها الحرية المسؤولة في الدولة الوطنية وثقافتها المتفاعلة مع ثقافة الآخر المنضبطة به.
يؤكد الدكتور حسين جمعة في كتابة القيم على ضرورة التحرُّر من الرؤية الماضوية للهوية، التي نجدها في الموروث الديني، وفي التراث و"الثقافة الشعبية"، فيتحول لديها مفهوم الهوية إلى مفهوم الجوهر الثابت والسرمدي. إنها الصيغة التقليدية أوالدينية للهوية التي ترفض الاختلاف والتعدّد، فمقولة الجماعة، أو مقولة الأمة أوالشعب أو الطبقة أوالحزب، نافية للإفرادية، لاختلاف الأفراد الحقيقي، للمغايرة، والتعدّد، أي نافية للواقعي الفعلي، ونافية للحرية، فضلاً عن أنها مقولات غير تاريخية أو لا تاريخية، بل جواهر وماهيات ومطلقات. تقيم هذه الصيغة للهوية التي تدافع عنها المؤسسة التقليدية في سوريا الوثنية على الصعيد المعرفي، والاستبداد على الصعيد السياسي، ولعل في وقائع التاريخ العربي الإسلامي، القديم والحديث والمعاصر، ما يؤكد ذلك.

فالفكر الديني التقليدي الذي تتبنّاه المؤسسة الدينية، والجماعات التي تدور في فلكها، وكذلك تيارات الإسلام السياسي الطامحة في الحكم، تفصل جوهر العرب والإسلام عن الواقع والتاريخ، وهذا الفصل هو من أبرز خصائصه. عند ذلك، نكون إزاء الهوية الفكرية والثقافية الدينية التي تعيش في التراث، وتكرّس الانغلاق، من "ثقافةٍ" دينيةٍ تعيد إنتاج الماضي بكل مشكلاته، وتتكيّف مع الانتهاك الاستعماري وشروط الهيمنة الإمبريالية الأميركية، ومع الصهيونية والعنصرية والرجعية العربية، ومع التأخر التاريخي والاستبداد السائدين في العالمين العربي والإسلامي، وتتغنّى مع ذلك بالخصوصية، وتروّج أطروحات معادية تماما للمشروع التحديثي والتنويري الذي بذلت فيه النخب السورية و العربية ، منذ أزيد من قرنين، جهودًا مضنية. وبذلك تكون هذه الهوية التقليدية ارتكاسًا قبيحًا وتعويضًا، لا معنى له عن الذل والامتهان والفرقة والتشتت والضعف.

لا يريد المجتمع السوري المنفتح على الحداثة ، بكل منطوياتها الفكرية والثقافية والسياسية، أن يظل سجينًا لعقدة الهوية، فهويته ليس ما كان عليه ذات يوم فحسب، بل ما هو عليه اليوم، وما يريد أن يكونه في المستقبل، فسؤال الهوية الذي تحدث عنه الدكتور حسين جمعة ، سواء بالسلب أو بالإيجاب، ليس له من جواب منطقي وتاريخي، إلا في المجتمع المدني الحديث، بوصفه مجتمع التعدّد والاختلاف والتعارض، ودولة الحق والقانون المبنيين على أسس ديمقراطية وإنسانية، فالمجتمع الذي يلغي حرية الأفراد واستقلالهم وذاتيتهم إنما يلغي حريته واستقلاله وذاتيّته، لأنّ إلغاء الفردي والخاص هو إلغاء للعام. وكما يقول المفكر الراحل، إلياس مرقص: إذا ما ألغينا حرية الأفراد، وأكدنا الهوية، لن يكون لدينا أي تطوّر، ولن يكون لدينا سوى "جوهر" وهمي للأمة، وعندئذ لا نكون إزاء مسألة الهوية، بل بالأحرى إزاء عقدة الهوية، والفرق كبير إلى ما لا نهاية بين مسألة الهوية وعقدة الهوية.. الهوية ذاتية حقيقية، ثقة بالذات، واستقلال فعلي، وحرية للإنسان، فردًا ومجتمعًا وأمةً.

اقرأ أيضا: محددات الهوية الوطنية السورية في ظل التحديات الكبرى.. قراءة في كتاب (1)

اقرأ أيضا: محددات الهوية الوطنية السورية في ظل التحديات الكبرى.. قراءة في كتاب (2)

التعليقات (0)
الأكثر قراءة اليوم