كتب

العصر الرقمي يسلبنا الحق في النسيان.. قراءة في كتاب

التاريخ الرقمي للشباب يمكن، على سبيل المثال، أن يضر بفرصهم في الالتحاق بالجامعة أو الحصول على وظيفة.
التاريخ الرقمي للشباب يمكن، على سبيل المثال، أن يضر بفرصهم في الالتحاق بالجامعة أو الحصول على وظيفة.
الكتاب: نهاية النسيان.. التنشئة بين وسائط التواصل الاجتماعي
تأليف: كيت إيكورن
ترجمة: عبدالنور خراقي
الناشر: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب/عالم المعرفة/2023


في القرن العشرين قرن العصر التناظري، كانت مسألة النسيان أمرا بسيطا متحكما به، إذ بمجرد انزعاج الشخص من صورة فوتوغرافية، تعود إلى مرحلة طفولته أو فترة مراهقته، يستلها من ألبوم صور العائلة ويتلفها، لتمحي معها الذكريات المحرجة. لم يعد هذا ممكنا في العصر الرقمي، فوسائط التواصل الاجتماعي تصر على الاحتفاظ بكل منشور، ليبقى صاحبه أسيرا لماضيه، وعرضة أيضا للتنمر السيبراني. حول هذه الأفكار يدور كتاب كيت إيكورن، أستاذة الإعلام في "الكلية الجديدة" في نيويورك، التي تناقش موضوع النسيان وحق الناس في أن ينساهم الآخر المتربص بهم في كل مكان.

بحسب إيكورن، فإن الأزمة التي نواجهها بخصوص استمرار صور الطفولة وذكرياتها، كانت تمثل أقل درجة من المخاوف عندما بدأت التقنيات الرقمية في إعادة تشكيل حياتنا اليومية في أوائل التسعينيات، وكان علماء الاجتماع والإعلام والباحثون التربويون أكثر ميلا إلى التحسر على فقدان الطفولة من القلق بشأن احتمالية وجود الطفولة الدائمة. كانت بعض المخاوف المبكرة بشأن تأثير الإنترنت في الأطفال والمراهقين مشروعة؛ لأن شبكة الإنترنت جعلت الكثير من المواد الإباحية والعنيفة في متناولهم على نحو أكبر، ومكنت المتحرشين بالأطفال من الوصول إليهم بسهولة أكبر، لكن العديد من المخاوف كان مرتبطا بالافتراضات القديمة بشأن الشباب، وقدرتهم على اتخاذ القرارات العقلانية. وأدرك عدد قليل من النقاد أن الخطابات التي تتمحور حول براءة الأطفال، كانت تستخدم بغرض تعزيز الرقابة على الإنترنت من دون مراعاة لحاجات الأطفال الفعلية.

ووفق المنظّر الإعلامي هنري جينكينزفإن"أسطورة براءة الطفولة" التي ترى الأطفال فقط ضحايا محتملين في عالم الكبار أو مستفيدين من الحماية الأبوية، تعارض طرق التدريس التي تسمح بتمكين الأطفال، باعتبارهم فاعلين ناشطين في العملية التعليمية. فلا يمكن تعليم الأطفال كيفية الانخراط في التفكير النقدي من خلال حرمانهم من الوصول إلى المعلومات التي تشكل أمامهم تحديا، أو الصور الاستفزازية. منظر إعلامي آخر هو نيل بوستمان وجد في كتابه الصادر 1982" اختفاء الطفولة"، أن وسائل إعلام جديدة كانت تعمل على تقويض التمييز بين سن الطفولة وسن البلوغ، بما يؤدي إلى تقليص سلطة البالغين وفضول الأطفال. ورأى أن الطفولة ومثاليتها في حالة تدهور، زاعما أن لهذا علاقة كبيرة بحقيقة أن الطفولة، هي تشكُلٌ كان دائما متشابكا مع تاريخ تقنيات وسائل الإعلام.

تقول إيكورن؛ إنه في تباين حاد مع تنبؤات بوستمان لم تختف الطفولة أبدا، بل أصبحت بدلا من ذلك موجودة في كل مكان وبطريقة جديدة وغير متوقعة، أصبحت فترتا الطفولة والمراهقة أكثر وضوحا وانتشارا من أي وقت مضى، وذلك يرجع إلى حد كبير إلى حقيقة أنه لأول مرة في التاريخ يتمكن الأطفال والمراهقون على نطاق واسع من الوصول إلى التقنيات اللازمة لتمثيل حياتهم، وتداول هذه التمثيلات، وتشكيل شبكات في ما بينهم، بإشراف محدود، أو بدون إشراف في أغلب الأحيان، من قبل الكبار. فلم يعد الخطر المحتمل في اختفاء الطفولة، بل بالأحرى، أصبح يتمثل في إمكانية وجود طفولة دائمة لا تمحى من الذاكرة، ولا يمكن نسيانها أبدا.

مخاوف جديدة

تلفت إيكورن إلى أن هدفها من هذا الكتاب، هو استكشاف ما قد يكون على المحك مع دخولنا حقبة تبدو فيها القدرة على فصل أنفسنا عن مرحلتي الطفولة والمراهقة، وتعديل ذكريات طفولتنا، في خطر على نحو كبير. وتقول إن ما نواجهه الآن هو احتمال بث توثيق لفترة شبابنا بشأن ما يمكن وصفه على أنه حلقة متصلة. وعلى عكس ألبوم الصور أو الصندوق الممتلئ بالتذكارات، فإن المعلومات التي تتراكم على وسائل التواصل الاجتماعي، تشكل أيضا جزءا من تجميعات أشخاص آخرين. آثار الماضي أصبحت الآن خارجة عن سيطرتنا ولا يمكننا تدميرها بسهولة بأيدينا، بل إن هذا الماضي يمكن أن تتحكم فيه مصالح تستثمر في الحفاظ على شبكاتنا السابقة سليمة. ويجب أن نتساءل ماذا يحدث عندما تتداول آثار الطفولة والمراهقة، العفوية إلى حد كبير، على نطاق واسع وإلى أجل غير مسمى، وتتحول في الوقت ذاته إلى بيانات؟

أن تنسى وأن ينساك الآخرون بهذا المعنى، هما عمليتان مرادفتان للحرية. إن عدم تقيد المرء بذكريات ماضيه ، أو بما هو أسوأ من ذلك، بأن يُذكّر انطلاقا من ذكريات شخص آخر، هو أن تتمتع بحرية إعادة تخيل الذات في الحاضر والمستقبل.
تذكر إيكورن أنه في العام 2015 أصبح للقاصرين في كاليفورنيا الحق في حذف المعلومات التي ينشرونها عبر الإنترنت، ويجب على الشركات الموجودة في الولاية إخطار جميع القاصرين، وأولياء أمورهم بهذا الحق. لكن هذه التشريعات لا تنطبق إلا على المواد التي ينشرها الشاب بنفسه، وليس على المواد التي ينشرها الآخرون عنه. أما في المملكة المتحدة يحتوي مشروع قانون حماية البيانات الخاصة، الذي صيغ في عام 2017، على ثلاثة وعشرين إشارة إلى كلمة "طفل"، ويوفر حماية قوية للأطفال والمراهقين. وتقول إيكون؛ إن النمو بقدر ما هو عملية أن ينسى المرء ذكراه ويُنسى، فهو تراكم للمعرفة والتجارب، لذلك يجب إعادة النظر جذريا في المخاوف القديمة التي تركز على كيفية حماية الشباب من المترصدين عبر الإنترنت، ويجب طرح السؤال حول كيفية حمايتهم من أنفسهم، أو من الذوات التي قد يرغبون في نهاية المطاف في تركها وراءهم عند بلوغهم سن الرشد.

وتضيف: بينما استفاد الأطفال والمراهقون من قدرتهم المكتشفة حديثا على التعبير عن أنفسهم، فإنهم يدفعون فعليا وسيواصلون دفع ثمن السيطرة التي اكتسبوها على الأدوات اللازمة لتمثيل الذات، وبث الصور والنصوص التي صنعوها بأيديهم، وهذه الخسائر اجتماعية ونفسية على حد سواء، وقد تتخذ في النهاية أشكالا أخرى. إن اللحظات الحمقاء أو المحرجة التي هي ببساطة جزء من النمو تحمل عواقب لم تكن تحملها في الماضي. إن الشباب لا يفقدون فقط بعضا من قدرتهم على استكشاف هويات جديدة وتجربتها من دون عواقب، بل هم أيضا بصدد فقدان القدرة على تحرير ذكريات طفولتهم ورعايتها، وفق ما يشير إلى ذلك سجل سنواتهم الأولى. إن بعض الأطفال والمراهقين سيخسرون أكثر بكثير من غيرهم، خاصة أولئك الذين يرغبون في نسيان الصدمات أو الأحداث المخزية في ماضيهم.

إن التاريخ الرقمي للشباب يمكن، على سبيل المثال، أن يضر بفرصهم في الالتحاق بالجامعة أو الحصول على وظيفة. لقد كشفت دراستان حديثتان عن أن نحو ثلث مسؤولي القبول بالجامعات بحثوا عن المتقدمين عبر الإنترنت، وفحص ما يصل إلى الثلثين صفحاتهم على فيسبوك. كما أفاد 30 إلى 40 في المائة بالعثور على مواد تركت انطباعا سلبيا.

النسيان دواء

يعد النسيان دواء مرحب به بالنسبة إلى أشخاص تواقين ببساطة للاستمرار في العيش. على سبيل المثال، فإن صدمة الحرب العالمية الثانية لم تؤد فقط إلى فجوات في التوثيق، بل أدت أيضا إلى فجوات انتقائية في الذاكرة. لقد اختارت بعض العائلات اليهودية تربية أطفالها من دون إبلاغهم أنهم كانوا ناجين من الهولوكوست، أو حتى إنهم يهود أصلا. كما اختارت نسبة من العائلات الألمانية تربية أطفالها من دون ذكر ما كانوا يضطلعون به في أثناء الحرب، أو ذكر مكان وجودهم آنذاك. إن أبرز الاختلافات بين الهجرات والمعاناة الجماعية السابقة والهجرات الحالية، وما يرافقها من مآس للأشخاص من سوريا وأجزاء من شمال أفريقيا، يتجلى في مدى توثيق الأزمة، وهو توثيق لا يقتصر على الصحفيين، فكل مهاجر سجل بشكل أو بآخر على هاتفه المحمول جزءا كبيرا من رحلته وتجربته القاسية، وعلى الأغلب شاركها على وسائط التواصل الاجتماعي.

تقول إيكورن؛ إن بعض الأدلة تشير إلى أن إبقاء المرء على ماضيه حاضرا، بغض النظر عن حجم الألم الذي يحمله، قد يسهل في الواقع انتقال المرء إلى المستقبل. فمعروف أن اضطراب ما بعد الصدمة يعالج من خلال تشجيع الضحايا على سرد الأحداث الرئيسية في حياتهم، بما في ذلك الأحداث الصادمة. لكن قد لا تخدم المحفوظات الشخصية للصور الغرض نفسه، إذا استمرت في الظهور مرة بعد أخرى دون دعوة من صاحبها وخارج السياق.

تضيف إيكورن؛ إن للنسيان وظيفة مهمة على الرغم من سمعته السيئة باعتباره عدوا للذاكرة، فهو يمكن أن يساعد المرء على المجازفة، واستكشاف هويات جديدة، واحتضان أفكار جديدة، كما يمكن أن يساعده على النمو، ويمكن أن يكون سندا مناسبا للتغلب على صراع الخجل أو دواء سحريا لصدمة شديدة. أن تنسى وأن ينساك الآخرون بهذا المعنى هما عمليتان مرادفتان للحرية. إن عدم تقيد المرء بذكريات ماضيه، أو بما هو أسوأ من ذلك، بأن يُذكّر انطلاقا من ذكريات شخص آخر، هو أن تتمتع بحرية إعادة تخيل الذات في الحاضر والمستقبل.
التعليقات (0)
الأكثر قراءة اليوم