أفكَار

سياسة وأقليات زمن صراع العالم الإسلامي مع الصليبيين.. حوار مع الشنقيطي (2)

لقد كان كل من الترك والفرنجة شعباً خشناً بالمدلول الإيجابي الذي قصده ابن خلدون، شأنهم في ذلك شأن الفاتحين العرب الأوائل في صدر الإسلام.
لقد كان كل من الترك والفرنجة شعباً خشناً بالمدلول الإيجابي الذي قصده ابن خلدون، شأنهم في ذلك شأن الفاتحين العرب الأوائل في صدر الإسلام.
الكتاب: "أثر الحروب الصّليبية على العلاقات السنية الشّيعية"
الكاتب: محمد بن مختار الشنقيطي
الناشر: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط1 بيروت، 2016 ،(عدد الصفحات: 290من القطع الكبير)


منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في 7 من تشرين أول (أكتوبر) من العام 2023، عاد الحديث مجددا عن المحاور الدولية مع الاصطفاف الغربي غير المسبوق إلى جانب الاحتلال الإسرائيلي في حربه ضد الشعب الفلسطيني..

وبرزت إيران كواحدة من أهم الأطراف المؤثرة في المشهد بالنظر إلى تبادل الضربات العسكرية بينها وبين الاحتلال الإسرائيلي، الذي عمد إلى اغتبيال عدد من قادة الحرس الثوري الإيراني في العراق وسوريا. وكان الاستهداف الإسرائيلي الأخير لقنصلية طهران في دمشق نقطة فاصلة في هذه العلاقة، حيث أعلنت طهران أنها لن تصمت على هذا العدوان، وأنها سترد، وقد كان لها ذلك حين أمطرت إسرائيل بعشرات الصواريخ والطائرات بدون طيار من إيران إلى الأراضي اتلمحتلة مباشرة..

وقد أعاد هذا الاحتقان الذي ميز العلاقات الإيرانية ـ الإسرائيلية على مدى العقود الماضية، وكذا اشتداد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، امكانية وحدة الصف السني ـ الشيعي في مواجهة هذا العدوان، الذي زاده الدعم الأمريكي والغربي وحشية، على نحو ما كان أيام الحروب الصليبية حين توحد الشيعة والسنة في مواجهة الصليبيين في عدد من المواقع..

وقد أثار الأستاذ الجامعي الموريتاني الكاتب محمد مختار الشنقيطي ذلك من خلال عدد من تغريداته على صفحته على منصة "إكس"، مستذكرا كتابه "أثر الحروب الصليبية على العلاقات السنية الشيعية"، داعيا إلى توحيد الصفوف ليس في نصرة المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، وإنما في الانحياز إلى الصف العربي والإسلامي في مواجهة حرب صلايبية جديدة بقيادة إسرائيل ودعم الدول الغربية وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية.

وأعاد الدكتور الشنقيطي نشر قراءة سابقة للكاتب والباحث السوري الدكتور عرابي عبد الحي عرابي عن كتابه المذكور، وهو ما أثار جدلا فكريا بين النخب العربية والإسلامية، ليس فقط عن العلاقات السنية ـ الشيعية، ولا الإيرانية ـ العربية، وإنما عن دور إيران في إضعاف العرب وتمكين عدوهم منهم.

"عربي21"، تفتح نقاشا فكريا عميقا حول كتاب الدكتور الشنقيطي أولا، وما إذا كان من الوارد أن يتم تحالف سني ـ شيعي في مواجهة العدوان الإسرائيلي والغربي على فلسطين والعرب والمسلمين..

وبعد أن نشرنا رأي الدكتور عرابي عبد الحي عرابي، ثم رأي الدكتور أحمد القاسمي الأستاذ الجامعي التونسي، ورأي الدكتور بلال التليدي الباحث المغربي في شؤون الفكر الإسلامي، ننشر اليوم رأي الكاتب والباحث في شؤون الفكر العربي والإسلامي توفيق المديني..

سيطرة السلاجقة الأتراك واندلاع الحروب الصليبية

عادت الدولة التي أسسها الصليبيون في مجتمعات المسيحيين الشرقيين ومسلمي الشرق الأوسط وانتهجت بالتدريج سلوكاً أكثر هدوءاً، إلا أن الصليبين أنفسهم كانوا يُعْتَبرون دائماً قساةً غلاظاً وبرابرة قذرين غير متحضرين.

يستشهد الباحث الشنقيطي بقول الرحالة أحمد بن فضلان: "في وصفه لرحلته إلى قبائل البلغار التركية عام (309هـ / 921م) قدم أحمد بن فضلان (ت. بعد 310هـ / 922م) سفير الخليفة العباسي قبائل الأتراك، والنورمانديين الجرمانيين (الفرنجة) للقارئ العربي في صورة مزرية حقاً: أمتان همجيتان لا تزال إحداهما مترددة في دخول الإسلام، والثانية غارقة في وثنيتها. وما كان ابن فضلان ليتصور أن هاتين الأمتين ستتواجهان على ضفاف المتوسط - بعد أقل من ثلاثمائة عام - في حروب شرسة، تحمل راية الإسلام وراية المسيحية.

من وجهة نظر الباحث الشنقيطي، كانت المقاومة الإسلامية للحملات الصليبية جهداً وإنجازاً تركيين في جوهرها. وتلكم هي الخلاصة التي يستخلصها في بحثه المهم عن القوى التي لعبت أدوارًا طليعية في تاريخ الحروب الصليبية خصوصاً إذا ما توحدت عناصر المقاومة الإسلامية بعضها إلى بعض في سياق واحد
ويقول الباحث الشنقيطي معقبًا على قول الرحالة: "والحق أن ذلك المصير الذي آلت إليه أمة الترك وأمة الفرنجة جدير بالتأمل من دارسي التاريخ العالمي. لكن ما يهدف إليه هذا الفصل أكثر تواضعاً وأقل طموحاً، فهو يركز على إسهام الأتراك في خدمة الإسلام خلال الحروب الصليبية، باعتباره خلفية ضرورية لفهم العلاقات السنية الشيعية خلال تلك الحروب. لقد تجلى ذلك الإسهام في أمور ثلاثة هي: صيانة حدود الإسلام من اختراقات الأعداء، وقمع الطوائف التي تراها الغالبية السنية مبتدعة خصوصاً الشيعة الإسماعيلية، ورعاية الإحياء السني في مجال علوم العقيدة والفقه والحديث... إلخ.

ولم يكن هذا الإسهام التركي في خدمة الإسلام في العصر الوسيط بعيداً في شكله ومنطقه عن الإسهام الفرنجي في خدمة المسيحية خلال تلك الحقبة. بل إن بعض الدارسين ليذهب إلى حد القول: إن المجتمعات التي ولدت من رحم الفتوح الجرمانية والإسلامية ليست مختلفة كثيراً كما يتم تصويرها عادة. وفي الفصول الآتية سنعرض صورة واضحة للدور النشط الذي اضطلع به الأتراك السنة والفرنجة الكاثوليك في الحروب الصليبية، مقابل الدور السلبي إجمالاً الذي تولاه الفاطميون الشيعة والبيزنطيون الأورثوذوكس.

ولا بأس من التنويه ابتداء إلى نزوع الكتابات العربية المعاصرة حول الحروب الصليبية إلى التقليل من شأن الإسهام التركي في المقاومة الإسلامية للحروب الصليبية. وهذا الموقف أثر من آثار التمايز القومي المعاصر، وما ترتب عليه من إعادة بناء الذاكرة التاريخية. لكن الدراسة الجادة للمقاومة الإسلامية للحروب الصليبية في سياقها الزماني ـ لا بعيون الهويات القومية المعاصرة ـ لا يمكن أن تتفق مع هذا المنحى. فليس من ريب أن إسهام الأتراك في صد تلك الحملات الفرنجية، وفي الإحياء السياسي والفكري السني الذي صاحبها، هو أحد أهم الظواهر في تاريخ الحروب الصليبية، بل في تاريخ الحضارة الإسلامية بشكل عام"(ص 34).

يعتقد الباحث الشنقيطي أنَّه لا يجوز التقليل من شأن الإسهام التركي في مقاومة الحروب الصليبية، فمثل هذا الموقف يُعَدُّ ثمرة من ثمار النظرة السلبية إلى الحقبة العثمانية المتأخرة في المشرق العربي واحتكاك الأيديولوجيات القومية المعاصرة. ومما يزكي هذا الطرح أن المصادر العربية القديمة -التي لم تشبها شائبة التمايز القومي المعاصر- تعترف بفضل الأتراك في التاريخ الإسلامي خلال العصر الوسيط، خصوصاً في الدفاع عن بيضة الإسلام ضد الغزوات الفرنجية ثم المغولية العاصفة.

لقد كان كل من الترك والفرنجة شعباً خشناً بالمدلول الإيجابي الذي قصده ابن خلدون، شأنهم في ذلك شأن الفاتحين العرب الأوائل في صدر الإسلام. فنظرية ابن خلدون في ميلاد العصبيات والدول نظرية ثمينة لفهم التحول الذي مر به كلا الشعبين من حالتهما الفطرية، وغاراتهما المتناثرة على تخوم العالمين الإسلامي والمسيحي، ثم اعتناق الشعبين لهاتين الديانتين، ثم سيطرة الفرنجة على العالم المسيحي، وسيطرة الترك على العالم الإسلامي، وأخيراً المواجهة الدامية بين الشعبين على ضفاف المتوسط تحت راية المسيحية وراية الإسلام.

دور الأتراك السلاجقة في مقاومة الحروب الصليبية

يقول الباحث الشنقيطي: "وعَوْداً للحقبة التاريخية التي هي موضوع دراستنا هذه، نقول إن السلاجقة سيطروا على بغداد ودخلوا في خدمة الخلفاء العباسيين، ثم بدأت القافلة التركية السير لإتمام مهمتيها، وهما تطهير دار الإسلام من المبتدعة في الداخل، وصيانة حدود تلك الدار من غزوات العدو الآتي من الخارج. وكان من نتائج ذلك أن أحيت القافلة التركية الصراع بين المسلمين والروم البيزنطيين. وقد كان ذلك الصراع نائماً منذ قرون، باستثناء مناوشات هنا وهناك نجد صداها في سيرة سيف الدولة وفي شعر المتنبي وأبي فراس وهي مناوشات لم تغير الحدود الفاصلة بين الدولتين الإسلامية والبيزنطية تغييراً جوهرياً، منذ نهاية الفتوح الإسلامية الأولى.

وحين اخترق الأتراك السلاجقة الزاحفون من الشرق دفاعات العالم المسيحي في معركة مانزيكرت عام (463هـ / 1071م) وتوغلوا في الأناضول، أهاجوا باجتياحهم الحملات الصليبية من حيث لا يشعرون. ويمكن القول - بشيء من التجوز في التعميم - إن الأتراك هم من جاءوا بالصليبيين إلى بلاد الإسلام، وهم من طردوهم منها في نهاية المطاف بعد مائتي عام من المقاومة"(ص 63).

من وجهة نظر الباحث الشنقيطي، كانت المقاومة الإسلامية للحملات الصليبية جهداً وإنجازاً تركيين في جوهرها. وتلكم هي الخلاصة التي يستخلصها في بحثه المهم عن  القوى التي لعبت أدوارًا طليعية في تاريخ الحروب الصليبية خصوصاً إذا ما توحدت عناصر المقاومة الإسلامية بعضها إلى بعض في سياق واحد، ونظر إلى الأقوام التركية المسلمة ـ على اختلاف خلفياتها ـ بمنظار واحد. ولقد كان من الآثار الجانبية لهذه الظاهرة التاريخية أن انتصر أهل السنة انتصاراً بيناً، وانحسرت الطوائف  الشيعية على اختلاف مرجعياتها انحساراً واضحاً، خلال الحروب الصليبية.

كانت المقاومة الإسلامية للحروب الصليبية بطيئة ومتشرذمة. ويستلزم فهم هذه المقاومة قدراً من التركيب يُضفي شيئاً من الترابط المنطقي على قرنين من حروب الاستنزاف، وكم وافر من الانتصارات والهزائم، وعدد لا يُحصى من الأبطال ومن الخونة. وقد استخدم الباحثون العرب والغربيون جملة من مناهج التحليل في دراسة المقاومة الإسلامية للحملات الصليبية. فمنهم من نَحَا نَحْوَ التحقيب السياسي، ومنهم من نهج نهج التصنيف الجغرافي.

ففي المنحى الأول قسم الباحثون مراحل المقاومة الإسلامية طبقاً لأعمار الممالك الإسلامية التي كان لها شأن في تلك المقاومة، فكتبوا عن إسهام الزنكيين (عماد الدين ونجله نور الدين في المقاومة والتحرير، ثم الأيوبيين صلاح الدين وخلفائه)، ثم المماليك بيبرس وقلاوون والأشرف خليل)... إلخ. أما التصنيف الجغرافي فأحسن أمثلته ما انتحاه المؤرخ السوري الموسوعي سهيل زكار، صاحب الموسوعة الشامية في تاريخ الحروب الصليبية الذي يدين له الباحث الشنقيطي بنصائحه العلمية الثمينة في زيارة له ببيته في دمشق عام 2008 خلال مرحلة الإعداد لهذه الدراسة. فقد قسم زكار المقاومة الإسلامية للحروب الصليبية إلى مراحل أربع، تبعاً للحواضر الأربع الكبرى التي كانت كل منها مركز ثقل المقاومة في حقبة بعينها. فكانت المرحلة الأولى مرحلة الموصل، تلتها مرحلة حلب، فمرحلة دمشق، ثم مرحلة القاهرة.

فقد رأت المقاومة الإسلامية النور ـ بشكلها المنهجي المنظم ـ في الموصل، ثم نمت وتوسعت حينما انضمت حلب ودمشق إليها على عهد نور الدين زنكي. وكانت حلب محشورة بين إمارتين صليبيتين هما الرها وأنطاكية، لكنها كانت أقرب مدن الشام إلى غرب وشمال العراق، حيث تخلقت بذور المقاومة الإسلامية وضربت جذورها. أما دمشق فكانت أقرب لإمارتي بيت المقدس وطرابلس الصليبيتين، وقد ضمها نور الدين إلى محور المقاومة.

وحينما ضم صلاح الدين الأيوبي القاهرة إلى هذا المحور الثلاثي الموصل - حلب - دمشق تعاظمت القوة الإسلامية، وأصبحت قادرة على الضربة الحاسمة في حطين عام (583هـ / 1187م). ولم يبق بعد حطين سوى التطهير اللاحق على التحرير، وهو تطهير تولى أمره المماليك في القاهرة بعد مرور قرن على معركة حطين الحاسمة. وكان آخر قلاع الصليبيين صموداً هي عكا التي اقتحمها المماليك عام (690هـ / 1291م)، وهو العام الذي يُعتبر خاتمة للحروب الصليبية.

أما التصنيف الذي يعتمده الباحث الشنقيطي في هذه الدراسة فأساسه التمييز بين الجبهات الثلاث وهي جبهة الأناضول الشمالية، وجبهة الشام والعراق الشرقية، وجبهة مصر الجنوبية. ومهما يكن نوع التصنيف الذي يعتمده المرء، فإنَّ النظرة الشاملة على مسار المقاومة الإسلامية للحروب الصليبية تكشف عن حقيقة واقعية هي أن العامل التركي ظاهرة مطردة في تلك المقاومة. فباستثناء صلاح الدين الأيوبي ـ الكردي النسب ـ فإنَّ جميع القادة ذوي الشأن في المقاومة الإسلامية للحروب الصليبية كانوا أتراكاً. وصلاح الدين كان جزءاً من النخبة العسكرية والسياسية التركية، بل هو نفسه كان يرى نفسه تركياً، وكذلك كان يراه رجال بلاطه كما سنبينه لاحقاً. وهذا ما يسوِّغ الفرضية التي تنبني عليها دراستنا هذه، وهي أن الحروب الصليبية كانت -في وجهها السوسيولوجي والعسكري- صراعاً تركياً فرنجياً.

لقد جمع صلاح الدين ـ مع نسبه الكردي المعين على قيادة قومه الأكراد ـ القدرة على الاندماج في الأقوام المسلمة الأخرى، والبراعة في قيادة الجيوش ذات الخلفيات المتنوعة، نظراً لما أوتي من سعة العقل، ورحابة النفس والالتزام بقضية الإسلام. وقد بلغ اندماج صلاح الدين في النخبة السياسية والعسكرية التركية أنه كان يرى نفسه تركياً، وكذلك كان المحيطون به من رجال بلاطه يرونه.
لا يقلل الباحث الشنقيطي في دراسته عن دور الأتراك السلاجقة في مقاومة الحروب الصليبية، من قيمة إسهام الأقوام المسلمة الأخرى في تلك المقاومة التاريخية . فقد كان للأكراد إسهام مجيد في معركة التحرير خلال حقبة نور الدين وصلاح الدين، فكانوا مكوناً رئيساً في جيشيهما. ووفر الفقهاء والشعراء العرب المسوغ الفكري والأخلاقي للمقاومة، كما أسهم سكان الحواضر من عرب الشام ومصر في الدفاع عن مدنهم التي حاصرها الفرنجة حصاراً مريراً أكثر من مرة، ومنهم تشكلت القوى الشعبية التي عُرفت يومذاك باسم المُطوّعة فكانت ظهيراً للجيوش الإسلامية النظامية. لكن العنصر التركي ظل يمثل النخبة العسكرية والسياسية الرائدة والقائدة، وقوام الجيوش المنظمة التي قاومت الصليبيين.

أما الدور العربي في تحرير البلاد الإسلامية من الاحتلال الصليبي فقد ظل في حدود الدعم والمساندة لا القيادة والمبادرة، وهو ما يشبه ـ من بعض الوجوه ـ دور البيزنطيين في الجانب المسيحي أيام الحروب الصليبية. فالعرب الذين كانوا سيف الإسلام في اندفاعته الأولى ضد العالم المسيحي والبيزنطيون الذين كانوا درع المسيحية ضد العالم الإسلامي لخمسة قرون لم يكن لهم إسهام جوهري في الأعمال الحربية خلال الحملات الصليبية. لقد استهلك ذانك الشعبان عنفوانهما العسكري قبل بدء الحروب الصليبية بزمن طويل، وحينما بدأت تلك الحروب تحولا إلى جزء من الخلفية والمشهد العام، لا إلى محاربين في ساحة القتال.

دور صلاح الدين الأيوبي

ويبقى اعتراض وجيه على هذه الفرضية، وهو أن صلاح الدين الأيوبي ـ وهو أشهر القادة المسلمين في العصر الصليبي ـ لم يكن تركياً. وهو الذي حرر القدس في معركة حطين الفاصلة (سنة 583ه- 1187 م )، وانتزع جل الساحل الشامي من أيدي الفرنجة. وليس من ريب في أن صلاح الدين هو أعظم المقاومين للمشروع الصليبي بلا منازع، وأنه من أفذاذ القادة في التاريخ العسكري الإسلامي، وكان طموحه السياسي توحيد  بلاد الشام مع مصر.

ولم يكن صلاح الدين ينتمي عرقياً إلى العرب الذين يمثلون نخبة المجتمع المسلم آنذاك، ولا إلى الأتراك الذين كانوا يمثلون النخبة العسكرية والسياسية الممسكة بمصائر العالم الإسلامي. وكان لزاماً عليه أن يتعامل مع الهيمنة العسكرية التركية، ومع الهيمنة الثقافية العربية في الشام ومصر. وقد نجح في الحالتين نجاحاً عظيماً، بسبب قدرته الفائقة على الاندماج في الأرضية الكردية ـ العربية  ـ التركية المشتركة، وتأكيده على روح الأخوة الإسلامية الجامعة للأقوام الثلاثة، ولغيرها من الأمم المسلمة.

أما عن الاندماج في المعادلة التركية، فإنَّ صلاح الدين الأيوبي ـ شأنه شأن أبيه وعمه ـ بدأ حياته العسكرية والسياسية ضمن السياق التركي وبرعاية قائد تركي هو نور الدين محمود، ثم خلف نور الدين في حكم الشام ومصر بعد ذلك. وكان من بين أمراء صلاح الدين العسكريين عدد من الأتراك، منهم مظفر الدين كوجك الذي كان صهر صلاح الدين وأحد قادته في معركة حطين. كما كان العنصر التركي طاغياً في صفوف الجند الذين تشكلت منهم عساكر صلاح الدين التي وصفها ساندرز بأنها كانت عساكر كردية - تركية، وهو وصف دقيق، بيد أن العنصر التركي كان هو الغالب عليها عددياً. وقد ألمح ابن شداد أكثر من مرة إلى اعتماد صلاح الدين على المدد البشري التركي، وتحدث عن خلق كبير من التركمان يلحقون بجيشه من وقت لآخر..

لقد جمع صلاح الدين ـ مع نسبه الكردي المعين على قيادة قومه الأكراد ـ القدرة على الاندماج في الأقوام المسلمة الأخرى، والبراعة في قيادة الجيوش ذات الخلفيات المتنوعة، نظراً لما أوتي من سعة العقل، ورحابة النفس والالتزام بقضية الإسلام. وقد بلغ اندماج صلاح الدين في النخبة السياسية والعسكرية التركية أنه كان يرى نفسه تركياً، وكذلك كان المحيطون به من رجال بلاطه يرونه.

وكان التحيز المتبادل بين الترك والكرد من المشكلات التي واجهها صلاح الدين في سعيه إلى توحيد الكلمة ورص الصفوف في وجه الصليبيين. وربما كان هذا التحيز هو السبب وراء الصراعات المتواترة بين الطائفتين في جيش صلاح الدين. وقد أورد ابن شداد أخبار عدد من هذه المواجهات، فكتب يقول: وفي تلك الأيام كانت وقعة التركمان والأكراد، وقتل بينهم خلق عظيم ويقول: ووقعت في هذا الشهر وقعات كثيرة بين التركمان والأكراد، بأرض نصيبين وغيرها، وقتل من الفئتين خلق عظيم. كما أورد العماد الأصفهاني مؤلف كتاب البستان الجامع - وهو غير العماد الأصفهاني كاتب صلاح الدين - قصصاً أخرى عن مواجهات تركية كردية عام ١١٨٣م، وعلق عليها بالقول إن النصر كان للترك في تلك المواجهات.

وتبقى البراعات الشخصية والانتماءات الاجتماعية ضعيفة الأثر مقارنة مع العامل الأهم في صعود صلاح الدين إلى القيادة والريادة، وهو تأكيده على الأخوة الإسلامية، واتخاذها رباطاً يربط به مكونات جيشه ودولته رغم اختلاف الأعراق واللغات والثقافات بين تلك المكونات، واستخدامه للقوة الأخلاقية ببراعة، وذلك سر عظمته ونجاحه السياسي والعسكري الباهر.

لقد كان من أسباب هذا الدور الريادي للأتراك في المقاومة الإسلامية للحروب الصليبية أن الأتراك منحوا المجتمع المسلم ثلاث مقومات كانوا في مسيس الحاجة إليها يومذاك. وهي: الحماس الديني، والبراعة العسكرية والمدد البشري.
لقد كان صلاح الدين شخصية مركبة برزت على خط تقاطع بين أمم إسلامية ثلاث هي الكرد والعرب والترك، فجمعت خير ما في تلك الأمم، وانتمت إليها كلها. فمكنه ذلك من جمع شتات أمة مزقتها الأنانية السياسية، والصراعات الطائفية، ورماها الأعداء عن قوس واحدة.

ويعتقد الشنقيطي جازمًا، أن صعود صلاح الدين والأيوبيين لا ينقُضُ الفرضية التي دافع عنها في دراسته هذه ،وهي أن المقاومة الإسلامية للحملات الصليبية كانت في جوهرها السوسيولوجي والعسكري ظاهرة تركية. وينبغي النظر إلى صلاح الدين الأيوبي باعتباره جزءاً من النخبة التركية التي تصدرت التاريخ الإسلامي لأكثر من ثمانية قرون دون انقطاع. فصلاح الدين كان ثمرة من ثمار النهضة السلجوقية كما لاحظ هربرت لُووِي بحق، وكان العنصر العسكري التركي محيطاً به طيلة حياته. بل إن الدولة الأيوبية التي أسسها صلاح الدين كانت أشبه شيء باللحظة العابرة بين الإمبراطوريات التركية المتتالية في التاريخ الإسلامي، فكانت خاتمة للدولة السلجوقية وفاتحة للدولة المملوكية ثم العثمانية.

يقول الباحث الشنقيطي: "لقد كان من أسباب هذا الدور الريادي للأتراك في المقاومة الإسلامية للحروب الصليبية أن الأتراك منحوا المجتمع المسلم ثلاث مقومات كانوا في مسيس الحاجة إليها يومذاك. وهي: الحماس الديني، والبراعة العسكرية والمدد البشري. وكان من ثمار إعادة السلاطين السلاجقة للاستقرار والسلم النسبي إلى قلب الدولة الإسلامية ظهور إحياء ديني وثقافي شامل، بدأ قبل الحروب الصليبية ببضعة عقود على يد الوزير حسين الطوسي المعروف بلقب نظام الملك (408- 485 هـ / 1018 ـ 1092م). فقد أسس هذا الوزير الفارسي ـ الذي خدم السلاطين السلاجقة ثلاثة عقود ـ عدداً من الجامعات والمدارس غايتها ترسيخ المذهب السني، ومحاربة عقائد الشيعة الإسماعيلية التي بدأ صداها يتردد في العراق وبلاد فارس خلال فترة وزارته المديدة.

وكان نظام الملك مدفوعاً بدافع التنافس مع جامعات ومدارس الدولة الفاطمية الإسماعيلية في مصر، خصوصاً مؤسسة الأزهر في القاهرة. ومن أشهر ما أنجزه هذا الوزير السلجوقي المدرسة النظامية في بغداد، وهي التي درس فيها الفيلسوف والفقيه العظيم - المعروف بمطارحاته الفكرية ضد الإسماعيلية - أبو حامد الغزالي (450- 505هـ / 1058 - 1113م). وساهم نظام الملك نفسه في مجادلة الشيعة الإسماعيليين في كتابه سياست نامه أو سير الملوك. وقد حذر السلاطين السلاجقة في كتابه من مخاطر الوقوع في حبائل الإسماعيليين، أو السماح لهم باختراق بنية الدولة، وميز بينهم وبين الشيعة الإمامية الذين اعتبرهم أقرب مذهباً، وأقل خطراً. ولم يغفر الإسماعيليون لنظام الملك ذلك الموقف، فكان أول ضحايا الاغتيالات السياسية التي نفذها فدائيوهم(ص 77).

إقرأ أيضا: سياسة وأقليات زمن صراع العالم الإسلامي مع الصليبيين.. حوار مع الشنقيطي (1)
التعليقات (0)
الأكثر قراءة اليوم