لم تجد صحيفة الأخبار اللبنانية المقربة، بل الناطقة عمليا باسم
حزب الله "مانشيتا" تغطي من خلاله دعوة وزير الخارجية السعودية لنظيره
الإيراني لزيارة المملكة سوى عبارة "تراجع الخاسر"، مشيرة إلى أنه تراجع يأتي انعكاسا لما يجري في "بغداد وبيروت وحمص و..فيينا". والمقصود بالأخيرة بطبيعة الحال هي المفاوضات المتعلقة بصفقة النووي بين إيران ودول خمسة زائد واحد.
لا تخفى لغة الغطرسة في المانشيت المذكور، الأمر الذي يجد صداه في عدد من التغطيات الصحفية، في حين تبدو التصريحات الدبلوماسية من عموم التحالف الإيراني أقل حدة، وإن راوحت بين حين وآخر، إذ يحدث أن تذهب بعيدا في غطرستها كما في تصريحات المالكي قبل أسابيع، في حين يحدث أن تكون دبلوماسية من قبل مسؤولين في الحكومة الإيرانية التي لا تعبر بالضرورة عن مزاج المحافظين في القيادة، حتى لو قيل إن ملف السياسة الخارجية هو بيد المرشد.
ولعل السؤال الذي يطرح نفسه هو ما الذي جرى في بغداد وحمص وبيروت وفيينا بحيث يؤدي إلى تراجع الخاسر، وهل إن وجود خاسر يعني أن الطرف الآخر رابح، وسيكون بوسعه إملاء شروطه كما يشاء؟
الجواب هو لا بكل تأكيد، فلا بيروت تشهد انتصارا لحزب الله الذي تكفيه عزلته عن الغالبية الساحقة من الأمة، فضلا عن حالة الحشد المذهبي في لبنان، ووقوع جمهوره أسرى لهواجس التفجيرات في الضاحية وسواها (مع رفضنا لاستهداف المدنيين غير المحاربين في أي مكان)، ولا بغداد تشهد انتصارا أيضا، وقول الصحيفة إن حصول المالكي على عدد من المقاعد أكبر من المرة الماضية، وثبوت ولايته الثالثة لا يكفي دليلا على أن العراق قد خضع لسطوته، ومن تابع عشرات المرات التي أعلن فيها هو نفسه الانتصار على ما يسميه الإرهاب دون جدوى يدرك ذلك بكل وضوح، فالعراق لن يستقر في ظل سياساته الطائفية، ومناطق العرب السنّة التي أذلت الأمريكان وأخرجتهم من العراق لن تغدو لقمة سائغة في فمه يبتلعها دون عناء.
أما حمص، فهي انتصار بطعم الهزيمة يأتي في ظل حشد من المقاتلين الأجانب، وليس بجهود جيش بشار المنهك، وهي استمرار لبعض التقدم في مناطق العلويين، مقابل تقدم للثوار في مناطق أخرى، وهجمات نوعية ضد جيش النظام وحلفائه. ومع ذلك، فإن بين ذلك "الانتصار"، وبين عودة
سوريا راكعة تحت حكم بشار مسافة بعيدة من الوهم، ستكلف إيران وحلفاءها عشرات المليارات من الدولارات (غير العشرات التي صرفت إلى الآن)، كما ستكلف حزب الله والمالكي، وربما الحرس الثوري، آلافا من القتلى أيضا، وفوق ذلك كله عزلة لهم جميعا، بل عداء سافر مع غالبية الأمة.
أما فيينا، فهي أقرب إلى الهزيمة منها إلى الانتصار، إذ أنها ستهيل التراب على حلم إيران النووي، لاسيما أن الجميع يعرفون أن إيران لم تشيِّد كل تلك المفاعلات لأنها في حاجة لطاقة نووية سلمية، هي الغنية بموارد الطاقة، وإنما من أجل سلاح نووي، وهي حين تتخلى عن ذلك، فإنما تعلن الهزيمة وليس الانتصار، حتى لو كانت هزيمة يفضلها الشعب الإيراني الذي لم يقتنع يوما بجدوى السلاح النووي الذي كلفه عقوبات أرهقته على نحو لم يعد يتحمله، فكان أن صوّت بكثافة لروحاني على أمل أن يفعل شيئا من أجل تخليصه من هذا الكابوس.
ولا شك أن نجاح روحاني في إتمام صفقة النووي إنما يعني أن تيار الإصلاحيين قد تقدم خطوة كبيرة على صعيد تحسين موقعه في السلطة على حساب المحافظين الذين ينبغي عليهم أن يدفعوا ثمن مغامراتهم التي كلفت المواطن الإيراني الكثير؛ هو الذي لا تسلب عقله حكاية الدور الإقليمي لبلاده، تلك التي تسيطر على أركان الحرس الثوري الذين يستعرضون يوميا قدراتهم القتالية كأنهم سيخوضون حربا بعد غد، ولا تدير حكومتهم مفاوضات من أجل التخلص من العقوبات، وكل ذلك في إطار من الحشد الشعبي ضد الإصلاحيين أكثر من أي شيء آخر.
والنتيجة أن لغة الغطرسة لا تخفي أن حاجة إيران إلى تسوية مع المحيط العربي تتفوق على حاجة الأخير الذي انشغل عمليا بحرب الثورات والإسلام السياسي فترك إيران تسرح وتمرح هنا وهناك.
نقول ذلك لأن معركة سوريا لا أفق لها، وهي استنزاف بائس وطويل بكلفة باهظة، ولن يوقفه غير تسوية ترضي الشعب السوري وداعمي الثورة، وإلا فهم سيفضلون بقاء الاستنزاف الذي يرهق (إيران) أكثر مما يرهقهم، لكن مصيبة ذلك كله أنه يضع الحبّ صافيا في طاحونة نتنياهو التي تزعم إيران وحلفاؤها أنهم يتصدون لمخططاته.
ما يجري في المنطقة ليس في مصلحة أحد (باستثناء الكيان الصهيوني)، ومن مصلحة إيران كما الآخرين التوصل إلى تسوية لا بد أن تشمل سوريا والعراق ولبنان، يليها التفاهم على جوار إيجابي يحافظ على مصالح الجميع، ويحررهم من الابتزاز الخارجي، وإلا فهي حرب داحس والغبراء الطويلة والمكلفة، والتي لن تنتهي أبدا ببقاء حكم الأقلية في سوريا، ولو امتدت عشرة أعوام أخرى.