كتب
فهمي هويدي: أزمة
النخبة أعم وأوسع نطاقا مما نتصور، حتى أزعم أنها من أخطر ما ابتلينا به في زماننا. ذلك أن المثقف إذا تخلى عن الاستماع إلى صوت ضميره وسوغ لنفسه أن يتخلى عن مسؤوليته في الجهر بكلمة الحق فإنه يخون رسالته ويفقد شرعيته.. وإذ أشرت إلى هذا المعنى أكثر من مرة في كتابات سابقة، إلا أنه ما دفعني إلى العودة إليه مجددا أمران. أولهما تنامي ظاهرة المثقفين الذين لجأوا إلى الإمساك بالعصي من الوسط، بحيث أصبحوا يضعون قدما في جانب والقدم الثانية في جانب آخر.
ويطلقون جملة تحتمل التأويل ثم يفرون منها إلى ما يستبعد أي تأويل يفضى إلى الاشتباك ويخل بإطار الموالاة. حتى إن أحدهم حين غاب عن المشهد بعض الوقت، فإنه برر غيابه بادعائه أن صمته بحد ذاته كان موقفا فيه رسالة أراد توجيهها إلى من يهمه الأمر.
الأمر الثاني الذي دفعني للعودة إلى إعادة إثارة الموضوع أنني قرأت نصا متميزا لأحد الكتاب السوريين نشرته صحيفة الحياة في 24/12 انتقد فيه مثقفي بلاده الذين يعرفون جيدا طبيعة النظام القائم في دمشق، ومع ذلك فإنهم وقفوا على الحياد وحرصوا على أن يقدموا أنفسهم باعتبارهم من دعاة المعارضة الناعمة، على حد تعبيره. في نقده لهؤلاء، استشهد الكاتب، الأستاذ حازم نهار، بمسرحية الأستاذ سعد الله ونوس، التي نشرها في عام 1993 بعنوان «منمنمات تاريخية». محور المسرحية كان تلك المواجهة التي حدثت في عام 1400 بين الغازي التتري تيمور لنك وبين ابن خلدون القاضي والمؤرخ وعالم الاجتماع ذائع الصيت.. وما كان يمكن أن يترتب في العصر الحالي بسبب قرار ابن خلدون ألا يدين تيمور لنك ويرفض مواجهته. تحدثت المسرحية عن زحف تيمور لنك باتجاه دمشق واجتماع الفقهاء في المسجد الأموي لبحث الأمر، في حين كان ابن خلدون جالسا ينتظر في بيت قاضي القضاة. دارت المناقشة بين الفقهاء حول ما إذا كان عليهم إصدار فتوى بوجوب الجهاد ضد تيمور لنك أم استرضاؤه. وانتهوا إلى ضرورة إعلان الجهاد، الأمر الذي ترتب عليه نشوب معركة قتل فيها كثيرون.
ابن خلدون الذي لم ير أن هؤلاء الفقهاء لا يمثلون النخبة ارتأى أنه لا جدوى من الجهاد ضد قوى جارفة مثل تيمور لنك. لذلك فإنه التقى الرجل وخرج من اللقاء ليدعو وجوه دمشق إلى الاستسلام. وبذلك فإنه فصل بين الموقف وبين المعرفة، واعتبر أن المعرفة أقوى وتدوم أجلا أطول.
وبَّخ سعد الله ونوس ابن خلدون على موقفه. واعتبر تحفظه مسلكا اتسم بالحماقة، والانتهازية السياسية؛ لأنه رفض تحدى تيمور لنك بحجة معرفته المسبقة بنتائج المعركة وإدراكه لأطوار حياة الدول. وسأل الجمهور عن النتائج التي كان يمكن أن تحدث لو قرر العالم الكبير أن يتدخل، وربما غيَّر ذلك من وجه التاريخ. وفي رأي المؤلف أن ابن خلدون لم يكن مهتما بالتغيير أو بالتطور، وإنما كان مهتما بنجاته ونظرياته التي توصل إليها حول حياة الدول.
ذكر الأستاذ حازم نهار أن «منمنمات تاريخية» تطرح السؤال الكبير حول موقف المثقف من الظلم: هل يرفضه ويقاومه، أم أن عليه أن يحسب نتائج رفضه ومقاومته ويحدد موقفه في ضوئها؟ وهو يسأل أيضا: هل أخطأ ابن خلدون عندما حافظ على حياته وتحليلاته وأعطى تيمور لنك الأمان الذي طلبه منه؟ وعقب على ذلك قائلا إن توصيفات وتحليلات ابن خلدون عاشت أمدا أطول من الأفعال العاطفية والنضالية التي قام بها المجاهدون لإيقاف الزحف التتري، لكن ذلك يدعونا إلى إعادة النظر في سلامة موقفه وصواب نصيحته، رغم أن التاريخ نسى الذين قاتلوا وماتوا، واعتبر المتقاعس بطلا. وعلق الكاتب على ذلك قائلا: إن سعد الله ونوس ترك الخيار لمشاهدي المسرحية لكي يقرروا بأنفسهم إن كانت تلك الشخصية التاريخية قد اتخذت القرار الصحيح أم لا. لكنه لم يدع مجالا للشك ليقول إن المعرفة تقتضى مسؤولية على من يحملها. وعلى المثقفين أن يتدخلوا في الشؤون العامة لمقاومة المعتدين والطغاة. فالكتابة عند ونوس سياسة بطبيعتها. ومن يقف جانبا يعين الطاغي على طغيانه. بمعنى آخر فليس هناك حياد في الثقافة. والمثقف حين يختار الحياد فإنه يخون رسالته.
ذكر الكاتب أن وزير الدفاع يوسف العظمة السوري حين خاض معركته ضد الفرنسيين في معركة ميسلون (عام 1920) كان يعلم أن جيشهم ثلاثة أضعاف رجاله وأنهم أفضل تسليحا، ومع ذلك فإن الرجل خاض المعركة بشرف واستشهد فيها. ورغم أنه فقد حياته إلا أنه سجل نقطة مضيئة وأحدث فرقا في تاريخ بلاده. وأراد الأستاذ حازم بذلك أن يدق الأجراس منبها المثقفين السوريين إلى أنهم لن يستطيعوا أن يحدثوا ذلك الفرق في تاريخ بلادهم إلا إذا أعلنوا رفضهم الصريح للاستبداد وتخلوا عن حيادهم وانتهازيتهم.
حين انتهيت من قراءة النص قلت إن الرسالة ينبغي أن تعمم على كل المثقفين العرب. علما بأن أغلبهم حين حذوا حذو ابن خلدون في موقفه، فإنهم لم يقدموا للناس شيئا من معارفه، لذلك ظل حرصهم على التمسح في عتبات السلاطين مقدما على رغبتهم في التغيير أو دخول التاريخ ـ وا أسفاه.
(صحيفة بوابة الشرق)