إن لم تسدد
اليونان هذا الأسبوع القسط المفترض أن تسدده من ديونها المتراكمة، فسيكون هذا أول وأكبر مؤشر على إفلاس الدولة. وهذه ليست أية دولة، هذه دولة أوروبية، عضو في
الاتحاد الأوروبي وعضو في مجموعة النقد الأوروبي الموحد، اليورو. ماذا سيعنيه هذا الوضع لمستقبل اليونان وعضويتها في الاتحاد ومجموعة اليورو؟ لا أحد يعرف؛ لسبب واحد بسيط: أن اليونان وأوروبا تدخلان منطقة مجهولة، وحالة لا سابقة لها. تعود الأزمة المالية والاقتصادية اليونانية في جذورها إلى الأزمة المالية/ الاقتصادية التي ضربت الولايات المتحدة وأوروبا الغربية في 2008 – 2009، وطالت بقية اقتصادات العالم بعد ذلك. وبالرغم من أن اليونان لم تكن الدولة الأوروبية الوحيدة التي انكشفت أمام رياح الأزمة الطاحنة، فقد كانت الحالة الأسوأ.
اليوم، وبعد مرور أكثر من خمس سنوات على محاولات إنقاذ اليونان من الهوة، لا يبدو أن ثمة ما يبعث على التفاؤل. على العكس، وبالرغم من أن المسألة اليونانية تغيب وتحضر في الصفحات الأولى للإعلام الغربي، فإن قلة فقط لا تريد أن ترى مخاطر المأساة اليونانية على مستقبل المشروع الأوروبي كله.
أصبحت اليونان عضواً في الوحدة النقدية الأوروبية، منطقة اليورو، في 2001. خلال العقد التالي، تصرفت الحكومات اليونانية المتعاقبة بقدر فادح من عدم المسؤولية، بل إن البعض يرى الآن أن التحاق اليونان بمنطقة اليورو كان الخطوة اللامسؤولة الأكبر. لم تكن اليونان في 2001 في وضع يسمح لها بتلبية شروط الالتحاق بمنطقة اليورو، ولا كان اقتصادها من القوة التي تتيح له الوقوف أمام عجلة الانتاج الألمانية الهائلة التي كان من الواضح أن الوحدة النقدية ستفتح لها أبواب الهيمنة الاقتصادية/ المالية على منطقة اليورو. لتغطية الخلل الهيكلي في البنية الاقتصادية/ المالية للبلاد، وتوفير شعور زائف بالرخاء، اقترضت الحكومات اليونانية من البنوك الأوروبية بلا ضوابط طوال العقد الأول من القرن، بل وكذب المسؤولون اليونانيون على نظرائهم الأوروبيين حول حقيقة حجم الدين الرسمي. عندما عصفت الأزمة المالية/ الاقتصادية أميركا وأوروبا، اتضح أن اليونان مدينة بـ 430 مليار دولار.
عالجت دول مثل بريطانيا وفرنسا وإيطاليا ضغوط الأزمة بسياسات مزدوجة من الاقتراض والتقشف. ولكن اقتصادات دول مثل إيرلندا وأسبانيا والبرتغال لم تكن من القوة التي تسمح لها بتحمل وطأة الأزمة. اليونان كانت الأضعف على الإطلاق. وكما كان متوقعاً، كانت ألمانيا من قاد عملية إنقاذ دول اليورو المتعثرة، بما في ذلك اليونان. وبقيادة ألمانية، لم يكن هناك على طاولة المفاوضات سوى شروط تقشفية طاحنة، مقابل قروض متوسطة الأجل. في الحالة اليونانية، ولأن الأزمة كانت الأكثر تفاقماً، وقفت اليونان أمام ثلاثية من الاتحاد الأوروبي، البنك المركزي لليورو، وصندوق النقد الدولي. منحت أثينا في بداية الأزمة 146 مليار دولار من القروض مقابل إعادة هيكلة الإنفاق الحكومي، بما في ذلك نظام التقاعد والتوظيف والدعم والتأمين الاجتماعي. وفي 2012، وعندما بدا أن عجلة الاقتصاد اليوناني أعجز عن الحركة نحو التعافي، منحت أثينا قرضاً ثانياً مصحوباً بشروط تقشف إضافية.
كان تقدير المسؤولين الأوروبيين (أو على الأصح المسؤولين الألمان) أن البرنامج التقشفي سيؤدي في البداية إلى انكماش في الاقتصاد اليوناني لن يتجاوز 4 بالمئة، لتبدأ اليونان بعدها في التعافي. ولكن خمس سنوات من التقشف أدت في الواقع إلى انكماش تجاوز 25 بالمئة، وإلى أن يصل معدل البطالة إلى 25 بالمئة من الطاقة العاملة، وإلى ارتفاع ملموس في نسبة الانتحار، وهروب ما يقارب 100 مليار يورو من السوق اليونانية إلى الخارج. القسوة التي تعامل بها الاتحاد الأوروبي مع اليونان، وفقدان الأمل بنهاية قريبة للأزمة، أديا إلى فقدان الحزبين التقليديين، بازوك والديمقراطية الجديدة، المصداقية، وإلى منح اليونانيين ثقتهم بأغلبية كافية لتحالف يساري، سيريزا، في انتخابات يناير/ كانون الأول الماضي.
وعد قادة سيريزا اليونانيين بوضع نهاية لسياسة التقشف، وأنهم سيعيدون التفاوض مع الاتحاد الأوروبي والبنك الأوروبي المركزي، وأنهم لن يخضعوا للتهديدات الأوروبية. خلال الشهور الأربعة الماضية حاولت حكومة سيريزا، بقيادة رئيس الوزراء أليكسس تسيباريس ووزير المالية يانس فاروفاكيس، إقناع دول الاتحاد الأوروبي، لاسيما ألمانيا، بأن سياسات التقشف القاسية وغير الرحيمة فاقمت الأزمة وأفقدت الاقتصاد اليوناني أية قوة متبقية للنهوض؛ بينما حاول الأوروبيون إقناع المسؤولين اليونانيين أن مزيداً من الاقتراض لن يساعد اليونان في شيء، وأن الأزمة تتعلق بهيكل النظام المالي/ الاقتصادي اليوناني، الذي يتطلب إصلاحات عميقة وصارمة، مهما كانت الآلام التي ستفضي إليها هذه الإصلاحات في البداية. لا تطلب حكومة سيريزا إعادة النظر في الشروط التقشفية وفي جدول الديون وأقساطها وحسب، بل وتأمل أن تقوم الجهات المقرضة، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي، بشطب 262 ملياراً من الديون.
ما يستبطنه موقف حكومة سيريزا أن تصميم الاتحاد الأوروبي على شروطه سيؤدي إلى إعلان اليونان إفلاسها وتوقفها بالتالي عن دفع أقساط الديون، ومن ثم الخروج من مجموعة اليورو. وما يستبطنه الموقف الأوروبي أن على اليونان الاستجابة للشروط والالتزام بالاتفاقيات المسبقة، أو أن تترك لمواجهة مصيرها منفردة، بما في ذلك خروجها من الوحدة النقدية، وربما من الاتحاد الأوروبي. ولكن أصداء الأزمة تبدو أكبر من ذلك كله. يقول قادة سيريزا أن موقفهم المناهض لبرنامج التقشف المفروض على البلاد لا ينبع من دوغما يسارية مسبقة كما يدعي بعض مسؤولي الاتحاد الأوروبي ومسؤولي حكومة ميركل، بل من التزامهم بالدفاع عن ما تبقى من أمل للشعب اليوناني، وشبابه على وجه الخصوص؛ وأن الصرامة والقسوة التي يتعامل بها الشركاء الأوربيون لم تقوض مقدرات الاقتصاد اليوناني وحسب، بل وتهدد المشروع الأوروبي كله بالفشل. انهيار اليونان، يشير هؤلاء، الدولة ذات الوزن الاقتصادي المتواضع، فشل للمشروع وليس لليونان وحسب. ولد المشروع الأوروبي وتطور خلال عقود على وعود بالرفاه والسلم والتعاون، وليس على التهديد بالإفقار والبطالة وسحق الطبقات الفقيرة. ما يقوله الأوروبيون في المقابل أن المشروع الأوروبي لابد أن يبنى على مسؤولية الحكومات تجاه شعبها، وليس على السياسات المنفلتة ووعود الرخاء الزائف.
في الصورة الأكبر، لم تظهر كتلة الاتحاد الأوروبي بمثل هذا التشظي من قبل، حيث تزداد حدة التباينات الاقتصادية والمالية بين الدول الأعضاء بصورة غير مسبوقة. الجميع يعرف أن أوروبا قارة من القبائل والإثنيات واللغات والثقافات والأديان، التي عاشت تاريخاً مريراً من الحروب والصراعات أكثر بكثير مما عاشت من السلم والتعاون، وأن هكذا تعددية لن تؤدي على الأرجح إلى ولادة دولة أوروبية واحدة في النهاية. ولكن الفرضية التي قام عليها المشروع الأوروبي أن الرخاء الذي سيفيض على مختلف الشعوب الأوروبية سيكون كافياً لدفع عجلة الوحدة إلى الأمام، مهما كانت العقبات القومية والثقافية.
اليوم، ثمة شك حتى في فرضية الرفاه والرخاء للجميع، ليس في ما يتعلق باليونان وحسب، بل وعدد متزايد من دول جنوب وشرق القارة. ليس هناك قوة شعبية دافعة للخروج من الأتحاد الأوروبي، لا في اليونان ولا في دول مثل أسبانيا والبرتغال وإيرلندا، ولكن الحلم الأوروبي في الوحدة أصبح أكثر تواضعاً، بلا شك.