بالمناسبة، لا يوجد شيء في
مصر دون "رشا"، رشا يرشو، رشوة، فهو راش، وكل أهل مصر، ومسؤوليها، بين راش ومرتش، بص يا سيدي، لا يوجد في مصر دولة، بالمعنى الخدمي، فكرة أننا قمنا بثورة لحماية الدولة المصرية، تبدو كوميدية، فقرة في مونولوج، مسرحية من شغل تياترو مصر، لزوم العرض ليومين، ثم البيع لقنوات السعودية، شيء من هذا القبيل، الجد، هو أننا قمنا بثورة لاستعادة الدولة المصرية، كلية، وإعادتها مرة أخرى للعساكر، أي لحمايتها من أن يخطفها فصيل آخر، فقد تعودنا، على الخطف الميري، والخاطف "اللي تعرفه" أحسن من الخاطف "اللي ما تعرفوش".
والسؤال: لو افترضنا جدلا، أن ثمة دولة مصرية، فهل يحتاج المصري إليها في شيء؟ الإجابة: لا، المصريون يعيشون هنا بفلوسهم، كل معاملاتهم مع الدولة يسبق رسومها ودمغاتها رسوم تحرك الموظف لأدائها، الدولة تعرف ذلك، وأحيانا "تفرش" له، بالقوانين التي تساعد على توفير البيئة المناسبة لإتمامه.
رخصة السيارة لا تمشي سوى بالرشوة، بعضهم يستخرجها دون أن يذهب إلى المرمر أصلا، لا يتم هذا الأمر في سرية، على العكس، على أبواب بعض فروع المرور، مرور فيصل نموذجا، ياللمفارقة، فيصل نسبة إلى الملك فيصل !!، ما علينا، هناك، يقابلك فريق "رشا" لتخليص الأوراق، على أبواب المرور، يقفون، ويصطادون زبائنهم تحت أعين الشرطة، على عينك يا تاجر، يخترقون طوابير المعدمين الذين لا يقوون على دفع "الفزيتا"، يتجاوزون الدور، وأحيانا، يتجاوزون الخطوط الحمراء، ويدخلون حيث لا يسمح بالدخول إلا للموظفين، يضعون الورق أمام الموظف المختص، في وضح النهار، لتخليصه قبل ورق الواقفين في أدوارهم، ثم يأخذونه لاستكمال بقية الاجراءات قبل أن يسلمونه إلى صاحبه الذي يشرب قهوته الصباحية على المقهى المواجه لإدارة المرور، يدفع ويستلم ويمشي، ببساطة، ودونما اعتراض من أحد.
حتى المواطنين الذين يقفون في طوابيرهم، وتشعل الشمس فروة رؤوسهم، أبدا، لا يبدون اعتراضا، فهم يعرفون القواعد، ولا داعي لافتعال الفضيلة، من كان معه، فليدفع ويرتاح، ومن ليس معه، فليتقبل ذل الدولة واهانتها لآدميته، ولو صرخت لليوم الثاني لن تلفت انتباه أحد، وربما قبضوا عليك بتهمة الرشوة !!!.
يحدث هذا في كل مؤسسات الدولة، وكل مستوياتها الإدارية، يحدث مع الموظف البسيط الذي يتقاضى أقل 1000 دولار في العام، راتبا من الحكومة، فيدعم دخله بالرشوة، كما يحدث مع كبار كبار المسؤولين الذين يصطافون على نفقة الدولة في أفخم المنتجعات السياحية، ويتقاضون بدلات الأعياد، والمواسم، وبدلات الثورات المضادة، والأحكام المسيسة، ويصل دخل الواحد منهم أحيانا إلى 100 ألف دولار في السنة، ويضاعف السيسي لمن يشاء !!!.
لقد استطاع الحكم العسكري أن ينقل الرشوة من كونها سلوك شائن يحاول صاحبه أن يسطو على حقوق الآخرين، إلى سلوك طبيعي، وواقعي للحصول على حقك، ثم إلى ثقافة، منهج حياة، صارت مكونا أصيلا في الشخصية المصرية، طابع، يتغلل في في المعتقدات الشعبية، حول الدين، والفن، والجنس، والحياة بتفاصيلها، فكل من يؤدي لك شيئا إنما يفعل مقابل ما يتقاضاه، حتى القبلة تطبعها الزوجة على خد زوجها، والابتسامة الصباحية، تنتظر، في بعض الطبقات والشرائح الاجتماعية، الثمن !!
يبدو القبض على وزير الزراعة، بعد تقديمه لاستقالته، واتهامه في قضايا فساد، بالتزامن مع القبض على حمدي الفخراني رئيس طابونة مكافحة مكافحي الفساد، بتهمة الرشوة، يبدو لي خبرا عبثيا، يبدو لي مثل رجل وقع في بالوعة، ثم خرج ليطمئن على ياقة قميصه دون غيرها، هل أصابها شيء، ينظر إليه الناس بوصفه مجنونا، أو ساخر رائع، يجيد تجاوز المعقول إلى اللا معقول جلبا لضحكات الآخرين.
ما الذي يعنيه القبض على أي مسؤول دون غيره من "كل" المسؤولين الباقين، الكبير والصغير، والبين بين، بتهمة "الرشوة" التي هي إيقاع الحياة اليومية المصرية، سوى رغبة القابض لممارسة بعض العبث، المرح، ليس مع المقبوض عليه، ولكن أمام المشاهدين، المتفرجين، هؤلاء الذين يريدون أي شيء يسليهم، ويدفع عنهم الملل، ذلك الذي لم يعد يغذيه نتائج المنتخب القومي لكرة القدم، وخناقات مرتضى وطاهر، وفضائح غرف نوم الأرتيست.
الملل الآن يصنع الثورات، يحتاج لكسر سمه، الإيهام بالمنجز، والتبشير الزائف بالمستقبل الذي يحمل الخير للجميع، إذا صبروا، حل مؤقت، كسب لمزيد من الوقت، تفريعة السويس ذهب مفعولها قبل الموعد المخطط له فيما يبدو، نحتاج إلى لقطة أقوى، يتقدم وزير الزراعة "الغشيم" باستقالته ليجد الشرطة في انتظاره على بعد خطوات من مجلس الوزراء، ومعهم الجماهير، والكاميرات، وكل لوازم "طهور" النظام، على حساب ركوب معاليه للحمار بالشقلوب.
يبدو السيسي رئيس عصابة غير مأمون، بلا كلمة، "مش جدع"، يضحي برجاله، وأدواته في ارتكاب جرائمه، ليرضي آخرين، يخشاهم، يستمر برجال جدد، ليس له عزيز، الجميع يذهب، فيما هو باق على جثث الجميع، يجد ما يقوله للناس، وما يقوله لرجاله، و ربما ما يقوله للمقبوض عليهم، المهم أن يخرج وحده دون خسائر، تحالفات تتفكك، وأخرى يتصورون بنائها، المهم أن يبقى السيسي، وكل من سواه لا يعني شيئا، القبض على الوزراء، رشوة الجنرال إلى الجماهير، هل تفلح؟ سنرى..