قضايا وآراء

متى اللقاء؟!

محمد ثابت
1300x600
1300x600
لم يكن الوداع هذه المرة ككل مرة.. قاس الوداع دائما ..ومتى كان غير هذا؟! ولكنني كنتُ لأظنه هذه المرة ككل مرة، ليست المرة الأولى التي أخطو خارج بلدي فيها، ليست الأولى التي أعانق طفلتي النائمة فتفيق من نومها مفزوعة متمسكة بعنقي ترفض يدا تجذبها بعيداً عني، ليست المرة الأولى التي أخطو فيها خارج المنطق والعقل اللذين جعلا جدتي، رحمها الله، ناقلة عن جدي لأبي قوله:

ـ آخر الدنيا لدينا مصر .. المنحدر القائم عليه مبنى مطار القاهرة، أو شاطئ البحر الذي يحمل المسافرين خارجها .. هاهناك نهاية حياتنا، عشنا فوق هذا التراب .. وما نريد سوى الموت فيه..!
لم يغادر جدي ولا جدتي ولا حتى أبي الأراضي المصرية .. ولدى المرة الأولى لمغادرتي المطار تمثلتُ كلمات جدتي، زينب، رحمها الله، وهي تقول إن هواء مصر شفاء لذات الصدور المكروبة بالأمراض والهم .. تذكرتُ تخيلها أن المطار واقع على منحدر وأن الخارج منه يمضي نازلا ..

كانت هذه هي المرة الأولى .. أما المرة الثانية فكان وداعا جنائزيا بالغ الحزن، إذ أترك مصر ولا أدري على وجه التحديد متى يمكنني أن أعود إليها، أرى المطار "يودعني" ..وبلدي التي أعرفها وذبتُ في تكوينها، ولم أكن أتمنى المبيت ليلة خارجة إلى بلد آخر بعد "مصر"  إذ هي لدي جنة الأرض .. كنتُ في سنوات الخليج التي تمثل لي المأساة الأولى، كنتُ كل ليلة أتخيل أنني في الصباح قد أغادر إلى مصر مرة أخرى، إلى الوجوه المرتقبة في المطار، إلى الألسنة الناطقة بكره السياسة، إلى نسمات استعذاب ظلم وفساد عهد مبارك، إلى تنهيدات المصريين لمجرد لمس الطائرة أرض المطار .. والكلمات التي لا تبدو عابرة بحال من الأحوال:

هل عدنا؟! كانت حالة شجية من تناسق مسمات الروح مع الوجوه القمحاوية التي لفحتها حرارة الشمس، وأرضية المطار، نفسه، غير المتناسقة.. بداية من الموظفين والعمال البسطاء المتناسين لمهامهم الذين يرفعون أسماء أناس موصى بهم ليأخذوهم من زحام الانتظار والطوابير إلى الداخل مباشرة، وتنتهي الأوراق .. وتأتي الحقائب في ثوان فيما ننتظر بالساعات لدى "سير الحقائب"، فيما التفتيش قد يستدعي فتح حقائب امرأة تبدو محترمة، فيما قد يحتاج الأمر للشجار مع موظف أمن أو ما شابه، لكن روحي كانت وما تزال إلى "جنة الأرض" تشتاق.. المكان الذي يحتوي روحي فتتناغم مع ذرات تكوين الأشياء والطاولات والأرضية اللامعة، والنفوس المتوثبة للراحة القادمة، المُتخيلة، عبر القادمين، راحة تتناسق مع الهواء واللفتات، ولقاء الغائبين .. لا تدري نفسي أني كنتُ أعدها لنفسي مفاجأة عند وصولي إلى بلد العمل؛ إذ أشرع في حجز جديد للسفر منذ اليوم التالي، وإلى مبنى مصر للطيران بالخالدية من الغربة، ولقاء المدير المسؤول ومناقشة خصم عضو اتحاد الكُتّاب .. حديث طويل دائماً لم يكن يخلو من ابتسامة هنا وهناك .. ودعوة مرفوضة إلى سيجارة، وفي النهاية بلا أدنى فائدة!
كنتُ أعد التذكرة قبل شهور ستة من السفر، وأعد الأيام للعودة!

كنتُ أخالني سأتحمل الغربة الجديدة .. ولم أكن أعرف أن الاشتياق هذه المرة سوف يقتلني، وأن لي أحبة هناك في وطني كانوا عنوان الحياة وما يزالون، أسماؤهم محجوزة بشوارع روحي، ونبض الوجدان، وترهات وزوايا التكوين، هم مسام القلب، وحنايا التجاويف، وطرقات ودروب الخيال، ومسالك العقل، ودروب النفس، وشرايين الحكايات والخيال، وأوردة الأيام .. كيف استمراري على قيد الحياة من بعدهم، وقد كانوا وما يزالون عناوين تلك الحياة بداخلي؟!

هذه المرة كانت الغربة وما تزال أقصى ما حل بالتكوين كله مني، لا أعرف متى الرجوع؟ ولا متى يمكن أن يرزق الله بلدي بمفكر سياسي أو أكثر أو يتكاتف مثله مع حركي .. عدد من السياسيين مؤثرين يطرحون أفكارا خارج الصندوق تمثل نواة لتوافق جديد .. خارج دائرة التسليم المُعجز الذي يدعي كل طرف أن الآخر يريده له ومنه، مع اختلاف قوى الطرفين تماما، ولكن لحمة ونسيج بلد واحد يتسرب حاليا من بين يدي الجميع، والطرف الأقوى الممسك بالسلاح يظن أنه قد كسب الجولة بل المعركة كاملة، وللحقيقة فإن ظاهر الأمور يخبر بذلك، ولكن كم تخفي قشرة الأرض من براكين وحمم؟!

أما الطرف الآخر الذي ساقته الأحلام وخطاب المحنة إلى موقف نادر الوجود وغريب، إذ انتشرتْ بين أطرافه إنه عائد بين يوم وليلة كعودة حلم غريب لا علاقة لها بالواقع ولا السياسة ولا التاريخ، وراحت تنتشر الأكاذيب والأراجيف، من آسف هنا وهناك، كما انتشرت واوات كلمة "أبشروا" في كلمات أحد المقربين من الرئيس محمد مرسي في كلماته على مواقع التواصل .. والنتيجة الجميع في موقف لا يحسد عليه ..غابتْ مفردات خطاب الصبر تماما، وبقي "ألجمع" متوسدا روائح الخطابات القديمة .. بقايا محنة 1954م على 1966م .. مع 2013م..

والحل منتظر من عند الله تعالى .. حل يلم شتات مصر ويسمح بعودة المهاجرين ومن قبل فتح أبواب السجون .. ومحاسبة المجرمين على نحو يرضي نفوس المظلومين، وهو ما نتمناه.. ولكن يبدو إن الأمر يحتاج إلى توكيل لله فيه، فما كان الله ليغفر لقاتل، ولو جزئيا، أي أصاب عضوا في جزء إنسان.. والأمر يحتاج إلى رغبة مخلصة من الطرف الأقرب إلى الحق، من الشرفاء الذين م آسف لم يحسنوا إدارة معركة السياسة والرئاسة فأودوا بمقدراتهم، إلا قليلاً، وما يزالون يراهنون على مستحيل يرحمهم مما هم فيه .. إن منصفا لا يستطيع التجاوز عن خطايا وجرائم العسكر، ولكنه في المقابل لا ينكر أخطاء أنصار الشرعية.. من آسف، وإن كان الأمر ليصدر عن ناصح مخلص لهم .. لو أنكم تراجعتم في سبتمبر 2013م لما طلب الأمريكيون منكم إعادة التفكير في حساباتكم لتغير الموقف اليوم كثيرا، رغم ما كان بعد أحداث مجزرة رابعة المحزنة .. ولكن العقل يقول بالحفاظ على ما تبقى من قوتكم ومن بلدنا مصر .. ولو أنكم تفكرتم بعدها على مدار 2014م لتغيير الحال كثيرا، أما التأخر إلى اليوم فهو ما أخشى ألا يؤدي إلى مزيد من الأزمات في المستقبل ..

تفكرت في بلدي فكانت الكلمات والأمنية العزيزة أن يكون اللقاء بها قريبا .. ألا متى اللقاء يا وطني؟ 
ومتى تصفو سماؤك وتتغير أجواؤك؟  
التعليقات (0)