كتب حازم الأمين: صورتا هذا الأسبوع كانتا: الأولى تلك التي جمعت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع رئيس ما تبقى من النظام السوري بشار
الأسد، والثانية صورة قائد فيلق القدس في الحرس الثوري
الإيراني قاسم
سليماني بين مقاتلين إيرانيين ولبنانيين في مدينة حلب السورية.
في الأولى بدا الأسد وحيدا ومُستدعى، ووُزِّعت بعد أن عاد إلى دمشق واطمأن الروس إلى عودته سالما آمنا من رحلته التي تعدّ الأولى له إلى خارج
سوريا منذ 2011، وفي الثانية أراد قاسم سليماني أن يعلن عبرها وجوده في سوريا في لحظة يبدو من خلالها أن باب المساومات قد فتح هناك.
بعد واقعتي موسكو وحلب، هل صحيح أن أحدا ما زال معتقدا بأن لبشار الأسد مستقبلا في سوريا؟ فالرئيس المُستَدعى إلى موسكو تتولى الأخيرة تأمين غطاء جوي لحربه على السوريين، فيما يتولى بطل الصورة الثانية، الجنرال سليماني، تأمين المهمة البرية.
وهنا يبدو أن المؤمن (واقعيا وليس أخلاقيا) بمستقبل لبشار، لا يختلف عن المؤمن بمستقبل لأبو بكر البغدادي في دولته الواقعية والافتراضية. إلا إذا انطوى هذان الإيمانان على اعتقاد بأن الحرب هي المستقبل.
صورة "الرئيس" بين يدي سيد الكرملين بدت كاشفة لمستوى الوهن الذي بلغه، كما أنها قرينة تمكن الاستعانة بها في مجال البحوث النفسية حول شخصية المستبد وما تنطوي عليه من ميول امتثالية ومن فقدان للثقة بالنفس، يُفَسرُ العنف في ضوئهما بصفته نزوعا تكوينيا مهمته تعويض مشاعر الامتثال واهتزاز الثقة بالنفس.
أما صورة سليماني في حلب فتطرح تساؤلا آخر، ذاك أنها ليست مجرد صورة التقطت مصادفة.
ثمة من قرر أن يلتقط صورة لنفسه وبين مقاتليه في مدينة حلب. لهذه الصورة وظيفة دون شك. فلماذا قرر سليماني أن يلتقطها وأن يُوزعها؟ وماذا أراد أن يقول؟ ومع من يتكلم؟
الصورة مسيئة دون شك لحليفه الضعيف بشار الأسد، ذاك أنها تكشف أن المساهمة الإيرانية في الدفاع عن النظام في سوريا لا تقتصر على المقاتلين والخبراء، إنما تتولى طهران بنفسها قيادة المعارك.
وصورة سليماني رسالة في أكثر من اتجاه، ففيما تصدرت موسكو مشهد المواجهات السورية وشرعت بعمليات مساومة ومفاوضة موحية بأنها انتزعت المبادرة من يد طهران، التقط سليماني الصورة لنفسه في حلب.
والصورة، إذ لم تكترث لما تخلفه من انطباع بأن من يقاتل في سوريا لم يعد الأسد ولا قواته، جاءت أيضا ردا على انتهاك آخر لصورة "السيد الرئيس"، تلك التي ظهر فيها وحيدا دون فريقه في حضرة قادة الكرملين.
القول إن انسجاما
روسيا إيرانيا قائم في الحرب السورية، لا تثبته صورتا الأسد في موسكو وسليماني في حلب. ثمة تنافس لا يقيم وزنا لصورة "الرئيس"، وثمة سباق على الاستثمار في وهنه. والرغبتان في الإبقاء عليه رئيسا ضعيفا تلتقيان عند حدود ضعفه، لكنهما تفترقان في الكثير من المواضع الأخرى، ولا دليل على ذلك أوضح من التسابق على توزيع الصورتين.
في هذا السياق، يبدو القتال المركّب في سوريا أغرب تجربة حرب شهدها التاريخ الحديث، ذاك أننا أمام قوة برية خارجية (إيران وجماعاتها) وقوة جوية غريبة (روسيا)، والقوتان لا تمتان لبعضهما بعضا بعلاقات ومصالح صلبة، والأرجح أن مهمة النظام السوري وما تبقى لديه من وحدات عسكرية في هذه الحرب هي التنسيق بين القوتين.
يحتاج المؤمنون بأن للأسد موقعا في مستقبل سوريا إلى الكثير من انعدام الإدراك حتى يستمروا في قناعتهم هذه. فالمشهد من حول "الرئيس" شديد الوضوح، وقد يفهم المرء تمسك البعض بصورة الرئيس بانتظار تسويات تمليها متغيرات ميدانية، ولكن أن يكون هناك من لا يزال مؤمنا أو مصدقا أو مستثمرا في إمكان تسوية تبقي عليه، فهو يُغامر بمستقبله على مذبح هذا الخطأ.
والحال أن صورتي سوريا المشار إليهما مثلتا مرحلة مختلفة في علاقة الرئيس بـ "حلفائه". ذاك أنهما كشفتا عن مرحلة لم يعد معها الحلفاء حريصين على صورة رئيسهم في سوريا.
فأن ترسل موسكو طائرة عسكرية لتصطحب الرئيس بمفرده إلى الكرملين دون أن يعلن عن الزيارة إلا بعد انتهائها، فهذا إعلان بأنه لم يعد للرئيس من يحميه ومن يصطحبه.
وأن تُكمل طهران المهمة بأن تبُث صورة لسليماني يقود المعارك في حلب، فهذا إعلان أيضا "أننا نحن من يقوم بالمهمة".
والحال أن لعبة الصورة كان سليماني قد افتتحها في العراق بعد سنوات من العمل في الظل هناك، وجاءت جزءا من قرار إيراني بمنافسة الأمريكيين في حربهم الجوية على "داعش" في مدن غرب العراق ووسطه وشماله.
أراد سليماني في صوره العراقية أن ينتزع من الأمريكيين ما تبقى لهم من دور في العراق، فأطلق لكاميرته العنان، وراح يجوب فيها الجبهات هناك.
لكن نجاح مهمته العراقية، المتمثلة في تصدر النفوذ في بغداد، ترافق مع رغبة أمريكية بالانكفاء، وبعدم مقاومة واشنطن للتوسع الإيراني. أما في سوريا، فمنافسة الروس عبر الصور وعبر تعمد تصديع صورة الرئيس، تأتي مع اندفاعة روسية معززة بضمانات لإسرائيل وبميل ما تبقى من نظام بالاقتراب من المهمة الروسية أكثر من الانخراط في المهمة الإيرانية.
الأسد الضعيف والواهن بين حلفائه، قوي فقط بين خصومه، ذاك أن الفشل الذي لازم أي مشروع سياسي لقوى المعارضة جعل مقولة غياب البديل حقيقة لا يمـكـن تـجاوزها.
فحتى بالنسبة إلى موسكو وطهران، فإن احتمال المقايضة على مستقبله ستصطدم بواقع انعدام البديل.
وهذه الحقيقة تفتح على حقيقة أخرى، هي أنه على المدى المنظور يبدو أن للحرب أفق وحيد، وأن المأساة تكمن في أن الحرب هنا لا وظيفة لها سوى تأمين استمرارها.
(عن صحيفة الحياة اللندنية، 25 تشرين الأول/ أكتوبر 2015)