نشرت مجلة "فورين بوليسي" تقريرا للكاتب فريدريك ديبور، يناقش فيه وباء
الانتحار في الولايات المتحدة وأسبابه وضرورة مواجهته والاهتمام بدراسة مسبباته ومعالجتها.
ويبدأ الكاتب تقريره قائلا: "تخيل أن معدل الوفيات بسبب
الإرهاب ارتفع بشكل كبير على مدى الخمس عشرة سنة الماضية، وتخيل لو كان هذا الارتفاع في الوفيات منتشرا على شكل واسع، ويؤثر في المجموعات الديمغرافية كلها، تخيل لو كان يموت كل عام 40 ألف شخص من الهجمات الإرهابية في هذا البلد، بدلا من أن يكونوا على عدد الأصابع، تخيل لو كان الإرهاب أحد العشرة مسببات الأولى للوفاة في الولايات المتحدة".
ويعلق ديبور قائلا: "هذه الأسئلة النظرية مستحيلة التخيل، بل سيكون أثرها أعظم مما يمكن أن نتصوره، خاصة أنه بالرغم من الأثر الذي لا يكاد يذكر للإرهاب بعد 11/ 9 على أمريكا، إلا أننا قمنا بتغييرات كبيرة جدا لوظائف النظام الأساسية لمحاربته، فقمنا بالتعذيب والسجن لعقد ونصف دون محاكمة، وخلقنا نظام رقابة دون الحاجة لمذكرات قضائية، وقمنا بإنشاء بنية تحتية ضخمة لمكافحة الإرهاب، هذا كله في وجه تهديد يتسبب بموت عدد يسير من الناس".
وتورد المجلة أن ما ذكره الكاتب في البداية، يصف بدقة مصدر تهديد آخر للحياة، لكنه لا يجلب الاهتمام ذاته، وهو الانتحار، مشيرة إلى أن دراسة موسعة عن المركز الوطني للأحصاءات الصحية صدرت حديثا، حيث ركزت على الانتحار في أنحاء البلاد، وكانت النتائج، التي توصلت إليها الدراسة، محبطة: حيث ارتفع معدل الانتحار في أمريكا ما بين 1999 و 2014 بنسبة 24%، وحصل الارتفاع في الفئات العمرية كلها، ما عدا الفئة العمرية 75 وما فوق، وفي الفئات الإثنية والجنسية كلها، ما عدا الذكور السود، وارتفع معدل الانتحار إلى 13 حالة بين كل 100 ألف شخص في 2014، بينما تسببت الجرائم بقتل 5.1 شخص لكل 100 ألف شخص في عام 2013، حيث إنه "في الوقت الذي نخاف فيه بشكل غريزي من القاتل المختبئ خلف الأشجار، فإننا في الواقع نحن الأخطر على أنفسنا".
ويشير التقرير، الذي ترجمته "
عربي21"، إلى أن هذا الارتفاع الواضح في إيذاء النفس يأتي وسط عالم يزداد أمنا، فقد تراجع معدل الجريمة العنيفة في الولايات المتحدة بشكل كبير على مدى عقود، كما أن الطب الحديث يستمر في تقليل معدلات الوفاة بسبب الأمراض والحوادث، مع أن بعض مسببات الموت تبقى مستعصية على الطب، حيث إنه حتى الوفيات الناتجة عن حوادث السيارات تراجعت بشكل كبير، مستدركا بأن "الانتحار بقي هو المسبب الوحيد الذي يتجه نحو الارتفاع، وخياراتنا الحقيقية لإيقاف شخص مصمم على قتل نفسه قليلة".
ويلفت الكاتب الانتباه إلى قلة الاهتمام الذي حظيت به هذه القضية، مقارنة بقضايا أخرى أقل أهمية، ويقول: "ويبقى هذا صحيحا حتى عندما نأخذ بعين الاعتبار الميل للكتابة والقراءة عن الأمور السعيدة أكثر من الأمور السيئة، لكن حتى بالمقارنة بموضوع
تنظيم الدولة، أو
التغير المناخي، فإن موضوع الانتحار لم يحظ بالاهتمام اللازم، وربما أصبحت هذه المشكلة كحالة (الضفدعة المغلية)، حيث الارتفاع البطيء والثابت في المشكلة يتركنا غير قادرين على ملاحظته، ولكني أشك في أن هناك أمورا أعمق وأكثر إيلاما خلف هذه القضية".
ويضيف ديبور أن "الانتحار يظل مشكلة لا نستطيع الحديث عنها، فجريمة القتل تولد (الغضب)، والموت بالسرطان يولد (الحزن النبيل) على الفقيد، والوفاة في سن متقدمة تولد مشاعر (الامتنان) للفقيد على ما أنجزه، لكن الانتحار يتحدى تعابيرنا السهلة".
ويتابع الكاتب قائلا إن "الانتحار جريمة فيها ضحية وليس فيها مجرم، ولذلك ليس هناك شخص نضع عليه اللوم، أما ذوو المنتحر فعليهم التعامل مع خليط من المشاعر من الألم والشفقة على الفقيد، والغضب لحصول ذلك معهم، الكثيرون في ثقافتنا لا يزالون يلومون الضحية، وطبيعي أن تسمع بعد انتحار شخص مشهور، مثل الممثل والكوميدي روبين ويليامز، شخصا يقول إن الانتحار هو (المخرج للجبان)، وبأن الانتحار هو فعل جبان، هذه المواقف تنم عن فشل في التعاطف مع الضحية، وفشل في فهم العلاقة بين الانتحار والأمراض العقلية والإدمان، وكلاهما له علاقة قوية بمدى العرضة للانتحار. إن الانتحار، كغيره من المشكلات الاجتماعية، ليس له سبب واحد أو واضح، لكن هناك مجموعة من العوامل المساعدة تعمل معا، وعزو الانتحار إلى نقص في الشخصية يعكس جهلا لطبيعة المشكلة، لكن مثل هذا التفكير هو ما يساعد على عجز البلد عن التعامل مع مشكلة الانتحار بطريقة منفتحة وصحية".
وتذكر المجلة سببا آخر وراء قلة المقالات المكتوبة عن وباء الانتحار، حيث تقول إنه "سبب مقلق، وهو أن الانتحار يتركز بين أقل الناس أهمية من منظور المجتمع، فمثلا سكان أمريكا الأصليون ارتفع معدل الانتحار عند تلك الفئة العرقية بنسبة 38% بين الرجال و89% بين النساء، وهذا ليس عبثا، حيث تعاني هذه الفئة من ناحية نوعية الحياة من انتشار للفقر وتعاطي المخدرات، ومن المؤسف قوله إن هذه الفئة لا تجتذب انتباه الإعلام".
ويفيد التقرير بأن المشكلة توجد أيضا بين الطبقة العاملة من البيض، التي عانت على مدى عقود من تحول الشركات للاعتماد على التصنيع في الخارج، فشهدت هذه الفئة، التي عادة ما تفتقد للشهادات الجامعية، ارتفاعا كبيرا في البطالة والإدمان، مستدركا بأنه يجب التوضيح هنا بأن الأمريكيين البيض بشكل عام هم أفضل حالا من السود وذوي الأصول الإسبانية من نواح كثيرة في بلد لا يزال يعاني من سيادة البيض في بنيته.
ويجد ديبور أن "هذا لا ينفي أن الطبقة العاملة، التي لا تحمل الشهادات من البيض، شهدت تدهورا في معيشتها من نواح عدة، لا شك أنها تساعد في زيادة معدل الانتحار، لكن السؤال المحير هو لماذا ترتفع النسبة بين هذه الطبقة عن السود وذوي الأصول الإسبانية، الذين يصل معدل الانتحار بينهم إلى أقل من نصف معدله بين هذه الفئة (الطبقة العاملة من البيض)، ومن المفارقات أن الجواب لهذا السؤال يكمن في كون البيض بشكل عام شكلوا الفئة الأكثر امتيازا عن الملونين، ولذلك فإن الفقر والبطالة شكلا صدمة أكبر لهم، لكن يبقى هذا التوضيح افتراضيا، وفي ظل تفاقم المشكلة علينا أن ننظر إليها كونها مشكلة تؤثر في المجتمع كله وبفئاته كلها".
ويوضح الكاتب أنه "في الوقت الذي تؤثر فيه المعاناة في أعداد كبيرة من الطبقة العاملة، إلا أن الإعلام لا يعطي هذه المشكلة الكثير من الاهتمام، بل يركز في تغطيته على الجامعيين والأثرياء، فكثير من الصحافيين ينحدرون من عائلات من الطبقة المتوسطة، أو حتى أفضل من ذلك، فإن بعضهم يحملون الشهادات الجامعية، مثلي أنا مثلا، وغالبا ما تكون الشبكات التي يتعاملون معها من الطبقة ذاتها".
وترى المجلة أن "ما قد يعمق المشكلة تأثير (غرفة الصدى) في مواقع التواصل الاجتماعي، حيث (ترفض الآراء المعارضة داخل مجموعة معينة وتحجم)، وتهمش قضايا الناس في المناطق الريفية الفقيرة، ولأن الإرهاب يحصل في المدن المهمة، ولأن التغير البيئي على مستوى العالم، فمن الصعب إهمالهما، ولكن الانتحار يحصل في ظل ثقافتنا".
وينوه التقرير إلى أن للانتحار مكونات جغرافية أيضا، حيث استحدث عالم الاجتماع مات راي من جامعة "تمبل" مصطلح "حزام الانتحار"، ليصف الشريط الذي يمر من الشمال إلى الجنوب عبر الولايات الغربية، أريزونا وكولورادو وايداوا ومونتانا ونيفادا ونيو ميكسيكو وأريغون وأوتا وويومنغ، التي تعاني في العادة من ارتفاع في معدل الانتحار، وهو في الغالب يعكس الظروف الاقتصادية التي تنتج عنها معدلات مرتفعة من حالات الانتحار، مشيرا إلى أنه مع معدلات مرتفعة من الرجال الكبار العاطلين عن العمل والعازبين، ونسبة عالية جدا من ملكية الأسلحة النارية، حيث يعد امتلاك السلاح واحدا من أكبر المؤشرات على خطر الانتحار، وبالرغم من أن أمريكا تعاني أكثر من أي دولة أخرى في العالم الصناعي من معدلات القتل بالسلاح الناري، إلا أن معظم عمليات القتل بسلاح ناري هي عمليات انتحار.
ويخلص ديبور إلى أن "الانتحار مشكلة منذ بداية التاريخ، ولن تحل بتغيير سياسات معينة، أو تطوير تكنولوجيا معينة، وأسبابها كثيرة ومتفرقة، وهي منتشرة لدرجة يصعب معها تخيل التخلص منها تماما، لكن نحتاج أن نعالجها باستمرار، ونحاول إنقاذ المزيد من الفقر واليأس، من خلال البرامج الاجتماعية والتعليم، والاستثمار في نظام الصحة العقلية، وتحديد الأشخاص الذين يحتاجون لمساعدة، وتقديم المساعدة لهم، فعلينا البدء بحوار وطني تأخر كثيرا لنناقش هذه المشكلة، التي يزال الحديث عنها يعد من أقوى المحرمات".