في العام 1982، دخلت الدبّابات الإسرائيليّة بيروت. لأوّل مرة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، ارتفعت أعلام إسرائيل في عاصمةٍ عربيّة. وقف جيش الأسد آنذاك يتفرّج. وساد العالم العربي صمتٌ مدوٍ أعلن حال الموت التي كانت انتهت إليها الكذبة العربيّة منذ عقود.
يتكرّر المشهد في
حلب اليوم. اختلفت هويّة المعتدي، وتعاظم عدد الضحايا. لكنّ القصّة هي ذاتها: مدينةٌ عربية، هي الأعرق في العالم، تُقتل، والصمت العربي العاجز سيّد الموقف. لا تحركات رسمية ترفع ثقل البلادة اللاإنسانيّة إزاء الكارثة السوريّة. ولا تظاهرات شعبية ترفض الظلم الذي يوقعه على السوريين نظامهم وبعض ممّن يدّعي تمثيل معارضتهم.
يموت سوريّ قتلا كلّ 25 دقيقة. ويُجرح سوريّ آخر خلال دقائق أقلّ. ردّ فعل العالم العربي، وقبله الدولي، إدانات تُجترّ من قاموس لفظيّ ركيكٍ لا يقدّم ولا يؤخّر.
التحرّك الوحيد الذي فرضته المأساة الأخيرة في
سوريا كان اتصالا هاتفيّا بين وزير الخارجيّة الأمريكي ونظيره الروسي انتهى اتفاقا على تهدئة في مناطق استُثنيت منها حلب. بغير ذلك اقتصر ردّ الفعل على بيانات مهينة، حتّى من دول إقليميّة أسهمت هي في تأجيج الأزمة رغم ادعائها الحرص على السوريين. دانوا الأزمة وعادوا إلى حياتهم الطبيعيّة، بينما يستوطن الموت حلب. لم يُعلنوا حتّى عن إجراءات إنسانية لمساعدة الأبرياء.
بات واضحا أنّ مفاتيح حلّ الأزمة السوريّة موجودةٌ في واشنطن وموسكو. اللاعبان الأكثر تأثيرا على مجريات الأزمة بعدهما هما إيران وتركيا.
الدور العربي هامشيّ. يستطيع العرب عبر بعض السلاح الذي تقدّمه عددٌ من دولهم لفصائل من المعارضة إطالة الحرب. لكنّهم لا يملكون ثقلا أو دورا سياسيا يسهمان في إنهائها.
تلك حال عجز يمكن أن تنتهي. لكن متطلّب ذلك هو فعل مدروس منطلق من إدراك العرب أنّهم الأولى بدفع جهود التوصّل إلى حلّ، ليس من باب الأخوّة المزعومة، ولكن من باب المصالح.
لتحقيق ذلك، يجب أن يكون التحرّك واقعيا مستهدفا إنهاء الأزمة، لا الانتقام، أو تحقيق العدالة المطلقة التي لا تتوفّر شروطها.
أولّ هذه أنّ خمس سنوات من الصراع والدمار شبه الكلّي لسوريا أثبتت ألا حل عسكريّا للأزمة. وثانيها أنّ الحلّ السياسي متاحٌ إذا استطاع العرب إقناع
روسيا تبنّيه.
وثالثهما أنّ العمل عبر مجموعة الاتصال الدوليّة لدعم سوريا، التي تضم عشرات الدول، غير مجد، بسبب تباين الأهداف ودرجات الاهتمام.
ليس من المستحيل أن تشكّل الدول العربية التي تلتقي في رؤاها السلميّة المعتدلة، خليّة عملٍ تُبلور مبادرة سياسيةً وتحملها إلى موسكو، محطة أولى في إطار تحرك دوليّ يفرض إطارا وظروفا أفضل لإطلاق مفاوضات تضع الأزمة على طريق الحلّ.
موقف روسيا من سوريا مدفوع بمصالحها. تستطيع الدول العربية المعتدلة أن تضمن المنطقي من مصالح موسكو. لا يمكن أن يكون مصير الأسد أولوية لدولة مثل روسيا. قلق موسكو هو على مآل الأوضاع بعد الأسد وتأثيرات ذلك عليها. هي قلقة من منظّمات إرهابيةٍ مثل "داعش" و"النصرة". وهي معنية بحضورها في الشرق الأوسط ومصالحها فيه. تستطيع دول عربية تعمل في إطار منسق لطمأنة موسكو حول هاتين القضيّتين.
المنطق يقول إنّ روسيا لن تربط دورها في المنطقة بنظام مُنهار فاقدٍ للشرعيّة عند أكثريّة شعبه، إن وجدت بديلا منه يحفظ مصالحها.
كسْب تأييد موسكو لمبادرة عربية تتبنّى انتقالا سياسيّا يضمن ملامح مرحلة ما بعد الأسد، ما قد يفتح الطريق أمام انفراج يُبرمج خروج الأسد دون انهيار الدولة، ويحيّد لدرجة كبيرة تأثير دول أخرى مثل إيران وتركيا.
والمنطق يقول أيضا إنّ أكثريّة السوريين سيقبلون حلا مثل هذا. وفي سياق مثل هذا الحلّ، من المرجّح أن ترفع قوى المعارضة الوطنيّة المُمتلكة قرارها الغطاء عن مجموعات إرهابية مثل "النصرة"، وعن أيّ فصيل آخر يصرّ على شروط الحدّ الأقصى مهما كانت دوافعه.
وسط الفوضى التي صارتها الأزمة السوريّة، ممكنٌ جدّا أن تفشل مثل هذه المبادرة العربيّة. لكن حتّى في فشلها رسالة إلى السوريّين أنّ ثمّة من يأبه لمعاناتهم. ففي انطلاقها ضوء أمل صغير يقول للسوريين إنّ هناك من يعمل من أجلهم، فيروا أفقا يحصّنهم ضدّ محاولات استغلال يأسهم من قبل إرهابيّين لا يجمعهم بإرث حلب الحضاري شيء.
مرت خمسون دقيقة منذ بدأت كتابة هذا المقال.
قُتل سوريّان آخران.
جُرح أربعة.
وربّما صدرت بيانات إدانات جديدة.
(عن صحيفة الغد الأردنية، 1 تموز/ يوليو 2016)