لا شك في أن ما حدث اليوم رغم الضغوطات الرهيبة التي مارسها النظام الانقلابي على قضاء مجلس الدولة بصنوف شتى من الضغط المباشر وغير المباشر، في محاولات ممنهجة لتشويه مؤسسة مجلس الدولة والقضاء الإداري بكامله، إنما يعبر عن أمر شديد الخطورة، وفاضح لطبيعة هذه السلطة المغتصبة التي مارست أقصى درجات الخيانة وأقساها بالتخلي عن الأرض والعرض، ومارست قبل ذلك تنازلا عن حقوق
مصر المائية ومواردها الغازية، بما يؤكد أن هذه سياسة ممنهجة لهذا النظام الانقلابي ومواقفه المتخاذلة التي يختطها بصدد أرض الوطن وموارده.
جاء هذا الحكم المهم للمحكمة الإدارية العليا ببطلان اتفاقية تعيين الحدود البحرية بين مصر والسعودية، من خلال رفض الطعن الذي قدم من جملة طاعنين يمثلون الحكومة متورطين في هذا الطعن الذي يوصمهم جميعا بالتفريط والتنازل والخيانة.
وشكل ذلك الحكم بحيثياته ومقدماته درسا مهما في الأحكام التي تتعلق بالسيادة على أراضيها وما يستحق هذا الموضوع من مواقف أساسية تتعلق بمجلس الدولة الذي عقدت ريادته لمستشارين من مثل الفقيه السنهوري والمستشار الحكيم طارق البشري، وكذلك المستشار وليم سليمان قلاده، وغيرهم من الشرفاء، ليعبروا بذلك عن مدرسة داخل هذا المجلس تتمسك بحس قانوني يترافق مع حس وطني رفيع.
بدا كل ذلك ليعيد الاعتبار لبعض قضاة مصر الشرفاء الذين استمسكوا بكل ما من شأنه أن ينتصر لقضايا الوطن مهما مارس هذا المنقلب ونظامه وسدنته من ابتزاز وتشويه ومحاولات للترهيب والتخويف.
جاء ذلك الحكم بحيثياته القانونية نموذجا للفهم القانوني الراقي والحس السياسي السامي، مؤكدا لشأن يتعلق باستناده إلى قاعدة الإثبات السلبية، مؤكدا أن الحكومة المصرية التي قدمت الطعن باسم رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ووزير الدفاع ووزير الخارجية ووزير الداخلية.
لم يقدم كل هؤلاء ما يثبت سعودية الجزيرتين، وفي حقيقة الأمر كان هذا أمرا ليس فقط مهما، ولكنه مذهلا أن يقوم هؤلاء المنوط بهم الدفاع عن أرض الوطن وسلامة أراضيه وسيادة مصر على كامل أرضها وجغرافيتها بمحاولة التشكيك بأنفسهم في ملكية مصر لهذه الجزر، ليعبروا عن حالة فريدة من الخيانة الحقيقية مع سبق الإصرار والترصد لم يعرف لها مثيلا في منازعات الحدود التي تتمسك كل دولة بحقوقها التي تؤكد عليها وتنافح عن حياضها، ويضطلع مسؤوليها بالدفاع عن حقوقها وحدودها.
وكان الأمر الأساسي الذي دفع به الحكم في هذا السياق هو تصويره لجيش مصر بأنه لم يكن في يوم من الأيام إلا مدافعا عن أرضه، ولم يكن في يوما من الأيام محتلا لأرض غيره، ليعطي القاضي درسا لهؤلاء حول التشكيك في مصرية هذه الجزر وتفانيهم المشبوه في إثبات عكس ذلك، ليعبر مرة أخرى في هذا الشأن عن حالة خيانة واضحة من قبل هؤلاء المسؤولين والطاعنيين.
وبدا هذا الحكم في حيثياته يسد كافة المنافذ على هؤلاء المفرطين والمتنازلين الذين يتوسلون وسائل من ألاعيبهم وألعوباتهم، ليؤكد بصورة قاطعة أنه لا يحق للبرلمان مناقشة موضوع يتضمن تنازلا عن جزء من الدولة.
مرة أخرى يفضح القاضي ألاعيب تلك المنظومة الانقلابية في محاولتها تخطي جهة الاختصاص القضائي إلى جهات تتعلق باستخدام سلطة تشريعية برلمانية في مواجهة سلطة قضائية، وهو افتعال لحيلة خاسرة يؤكد القاضي أنها لا تنطلي على حقيقة القضاء واختصاصه، وعلى حقيقة التلاعب المحتمل من جانب الجهات الطاعنة للتحايل على حكم قضائي ملزم بمصرية الجزيرتين.
ويعطي القاضي درسا لا يمكن لأحد أن يماري في منطوقه أو في مضمونه بصياغة بليغة تعبر عن حقيقة تاريخ وحقوق الشعب المصري في أرضه ووطنه، في أرضه التي يعتبرها عرضه، يعلمهم درسا يتعلق بتعريف تراب الوطن، فتراب الوطن مملوك للشعب المصري بأجياله وليس ملكا لسلطة من سلطات الدولة.
الأمر في حقيقته لا يمكن أن يكون بهوى سلطة أو تنازل فرد مهما كان منصبه ومهما علت رتبته، فالأمر يتعلق بالشعب وتراب الوطن وللأجيال التي تشكل ذاكرة الوطن في تراكمها ومستقبل الوطن فيما هو آت، ليقرر بذلك أن أرض الوطن لشعبه وليس مقرونا بهوى سلطة أو تسلط أو مستبد.
وأكد القاضي أن محاولة خلق تضارب بين السلطات حتى يفلت هؤلاء بجرمهم وبتفريطهم أمر لا يجوز ولا يمكن بأي حال قبوله، فالمادة 197 من لائحة البرلمان تغل يده عن مناقشة معاهدة تتضمن تنازل عن جزء من الدولة ومن أرض الوطن، وهو ما يفضح أي عمل يمكن أن يقوم به هؤلاء للاحتيال أو لاغتيال حق هذا الوطن وأبنائه في المحافظة على ترابه وأرضه وعرضه.
وكذا، فإن المادة 151 من الدستور ترفع عن المعاهدات التي تمس إقليم الدولة صفة الأعمال السيادية، فإن تعلل هؤلاء بأن ذلك من أعمال السيادة فلا سيادة لمن ينقص سيادة الدولة على أرضه، وما هو بسيادة، وإنما هو تنازل مرفوض وتفريط غير مقبول وخيانة واضحة وأعمال فاضحة، ويؤكده كذلك أن ذلك الإجراء الاداري للحكومة وأي جهات تنفيذية، وأي ما ترتب عليها من تنازل عن الجزيرتين مخالف للدستور والقانون، وأن الحظر لا يشمل التنازل فقط، وإنما يظل قائما طالما سرى الدستور.
هذه الحقائق الكلية الواضحة إنما تعبر عن رؤية ناصعة لقضاء يعرف للوطن حقه وللشعوب إرادتها وللقضاء وظيفته لتعبر أن كائنا من كان لا يستطيع التنازل عما لا يجوز التنازل عنه.
ويتضح من كل ذلك، أن هذا الحكم القضائي شكل ضربة قاسمة للمنظومة الانقلابية بكل تكويناتها، وحالة التوريط التي أراد المنقلب أن يمررها في إطار مشاركة في الطعن على أمر يتضمن خيانة وتفريطا، وأثبت من كل طريق أن هذا الرجل بما يمثله من سلطة انقلاب وسلطة أمر واقع لا يؤتمن بحال على سيادة شعب ولا على أرض وطن.
وشكل في حقيقة الأمر عملية نصب قام بها على المستوى الإقليمي تارة ليشرعن نظام غصبه، وتارة أخرى لقاء مليارات عدة لا تدري من أخذ ولا أين ذهب؟
وشكل كل ذلك ليس تفريطا في حسب، فيما يتعلق بطمع في سلطة أو في مال، بل إنه نقض أصول وجوهر الأمن القومي المصري حينما يتنازل عن جزر تتعلق من باب الجغرافيا السياسية بحالة استراتيجية تؤدي إلى تهديد الأمن القومي المصري.
هذه الخيانة المركبة، إنما تعبر عن حالة فريدة في التاريخ لم نشهد لها مثيلا، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يقبلها أي شريف فضلا عن شرفاء في القضاء الذي يتعلق ببعض رجال مجلس الدولة والقضاء الإداري، ليؤكدوا أن تراب مصر له من يحميه سواء من قضائنا القاعد/ العادل، أو من قضائنا الواقف/ الفاعل الذي شكل عملا مخلصا استطاع أن يحمي به الأرض والعرض، مؤكدا بهتافهم الأعلى والأسمى "عيش حرية .. الجزر دي مصرية".