بين يوم 4 تموز/ يوليو 1776 ويوم 15 أيار/ مايو 1948 أكثر من رابط، فهما يومان استثنائيان، وعجيبان في ضوء منطق التاريخ؛ إذ كان من المقرر أنهما مُلك لشعبين عريقين، كان من المفترض أن يعلنا فيه استقلال بلديهما، لكن الغريب أن مستوطنين ومهاجرين من مختلف بقاع الأرض أعلنا استقلالهما، وبذلك أصبح الاستقلالان للغزاة، كما أصبحت أرض الوطنَيْن أيضا.
هناك أمريكا، وهنا الكيان الصهيوني، في واقعتين تاريخيتين، تمت فيهما سرقة يوم استقلال الهنود الحمر، ويوم استقلال الشعب الفلسطيني، بحيث تحوّل اليوم الأول إلى لطخة لن تمحى في الضمير الإنساني، اسمها الإبادة، وتحول اليوم الثاني إلى نكبة مستمرة حتى يومنا الحالي بسبب المجازر والتهجير.
لا يحتاج الحديث في أمر كهذا إلى مناسبة، لأن النكبة مستمرة، وكذلك صدى إبادة الملايين من الهنود الحمر، الذي يتردد كصهيل خيولهم وعواء ذئابهم المجروح في ليالي هذا الكوكب، وكذلك الأمر بالنسبة لاستعباد ملايين الأفارقة، لكن مسلسلا أمريكيا، يتناول حياة جون آدمز ثاني رئيس لأمريكا، ويحمل اسمه، وفيلما من إخراج الممثلة والمخرجة الإسرائيلية-الأمريكية نتالي بورتمان، يفتحان الباب واسعا للحديث في الأمر، لأن أقبح ما فيهما هو إصرار القاتل على مواصلة الكذب، إلى ما لا نهاية.
يتكئ مسلسل (جون آدمز) الذي أخرجه توم هوبر على حياة ذلك الرئيس، في زمن التحولات الكبير، زمن تمرد المستوطنين البيض على الدولة الحاكمة: بريطانيا، وصولا إلى إعلان الاستقلال، الذي كان آدمز أبرز من شاركوا في صياغة وثيقته مع أربعة آخرين، هذه الوثيقة التي لم يُبق الرؤساء الأمريكيون من معانيها شيئا، إلا وشوهوه، لتُجهِز أمريكا بغطرستها على كل حرف فيه، داخل حدودها، بالعنصرية التي لم تزل مستمرة بأشكال مختلفة، وخارج حدودها بالحروب التي لم تنته حتى هذه اللحظة.
ومما جاء في وثيقة الاستقلال تلك: (أن البشر خلقوا متساوين، وأن خالقهم حباهم بحقوق معينة لا يمكن نكرانها والتصرف بها، وأن من بينها الحق في الحياة والحرية والسعي في سبيل نشدان السعادة. وإنه لضمان هذه الحقوق، تنشأ الحكومات بين الناس مستمدة سلطاتها العادلة من موافقة المحكومين. وإنه عندما يصبح أي شكل من أشكال الحكم في أي وقت من الأوقات هادما ومدمرا لهذه الغايات، يصبح من حق الشعب أن يغيّره أو يلغيه ويشكّل حكومة جديدة مقيما أساسها على المبادئ، ومنظما سلطاتها وفق الكيفية التي تبدو له أفضل ملاءمة لتحقيق سلامته ورفاهة).
على المستوى الدرامي، يستطيع المرء في ذلك المسلسل القصير، المكوّن من سبع حلقات، أن يُطل فيه على الحياة الأمريكية، فيرى المستوطنين، ويرى الجنود البريطانيين والفرنسيين، ثم يرى البلاط اللندني والبلاط الباريسي الملكي قبل اندلاع الثورة الفرنسية، لكن المشاهد لن يرى أيّ هندي أحمر، لن يرى غير بعض السود، فالهنود مغيّبون، والعبودية لا وجود لها في ذلك العالم الجديد: أمريكا، العالم الذي يبحث له عن شعار، مثل كل الثورات: الحرية والعدالة وحق تقرير المصير.
وهكذا، يتم تغييب الأعداد الهائلة للهنود الحمر، التي قدّرتها دراسات جامعة كاليفورنيا، حسب ما ورد في كتاب منير العكش (أمريكا والإبادات الجماعية) بمئة مليون حين وصول كولومبس، و 112 مليونا كما جاء في كتاب هنري دوبينز، كان منهم 18 مليونا ونصف المليون في ما يسمى أمريكا اليوم، أبيدوا بالقتل المباشر أو بثلاثة وتسعين وباء جرثوميا نشرها البيض! وهؤلاء، لم يبق منهم سوى ربع مليون في مطلع القرن العشرين! وما بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر تمّ نقل 12 مليون إفريقي، باختطافهم من بلادهم للعمل في مزارع السادة البيض أيضا، ولكن من ماتوا في بطون السفن، منهم، ومن قُتِلوا، أثناء عمليات الأسر أرقام مضاعفة، كما يشير كثير من الباحثين.
لن يجد المُشاهد ولو إشارة لكل هذا العدد من الضحايا، لا مباشرة ولا تلميحا، لن يجد سوى صورة الرجال الأحرار الذين يثورون على الظلم الإنجليزي! أما ما اقترفته أيدي هؤلاء من مجازر بحق الملايين، فلا أثر له، كما لا أثر لوصمة العار الأخرى المتمثلة في تجارة العبيد، والعنصرية، أبدا.
ولا يختلف فيلم: (قصة عن الحب والظلام) المأخوذ عن نص الإسرائيلي عاموس عوز عن ذلك، فالأصل هناك، في أمريكا، وليست إقامة إسرائيل سوى صورة لمشهد يتكرر بعد 172 عاما لا أكثر.
نتالي بورتمان، التي تعلّقتْ بنَصِّ عوز، لم تكتف بلعب الدور الأساس في الفيلم، وهي نجمة حازت على جائزة الأوسكار، بل قامت بإخراج الفيلم أيضا، وكما في مسلسل جون آدمز، حيث لا نرى السود إلا في مشهد واحد، يُدلي فيه أحدهم بشهادته في المحكمة ضد بِيض، كرجل حرّ، يملك مصيره! فإننا لا نرى في فيلم بورتمان سوى عائلة فلسطينية خلال زيارتها من قبل عائلة يهودية تصطحب عوز الصغير، أما الفيلم فهو حافل باليهود، الذين يعانون، والذين يتحدثون عن آلامهم، والذين ينتظرون بقلوب راجفة لحظة إعلان قرار التقسيم، ويحتفلون بها! أما الفلسطينيون فلا وجود لهم، حتى أن بورتمان لفرط عنصريتها، تعمل بكل ما لديها على إخفاء اللغة العربية، فكل يافطة أو إشارة هي بالعبرية وحدها، حتى أن إنجليزية الاستعمار البريطاني غير موجودة، فكأن هذه البلاد بلاد المهاجرين الصهاينة منذ الأزل.
مسلسل، وفيلم، نموذجان غير عاديين للتزوير وسلطة بذاءة الحذف، كما لو أن كل الفظائع التي قامت بها البنادق والقنابل على الأرض والأوبئة المُدبَّرة، في عملية إبادة الشعوب، لم تكتمل بعد، فيأتي (الفنّ السينمائي!) ليواصل العمل على إبادة الذاكرة وإبادة التاريخ، وتنظيف أيدي القتلة، وتعميق قبور الضحايا، ليكمل المهمات التي لم يكن باستطاعة القتلة تنفيذها.
وبعد:
هذه أرضُنا..
وسنكتب ما يكتب الشهداءُ على البحرِ والفجرِ:
نحنُ هنا
وسننقشُ بالرّقص (والميجنا)
اسمَ من يُولدونَ
ومن يرحلونَ
ومن يغزلون الحنينَ رجوعا
وهذي الليالي.. هنا، (روْزَنا)