عندما وقعت حرب الثماني سنوات الطاحنة بين العراق وإيران، كانت دول الخليج العربي ـ التي توصف عند القوميين العرب بالرجعية ـ تصطف إلى جانب العراق، باعتباره بوابة للوطن العربي وأن كسرها يعني التمدد الإيراني الفارسي في المنطقة وكانت أهم سند لصمود العراق أمام الطوفان الفارسي الملتحف بهوس ديني طائفي، رغم تحفظ دول الخليج على شخصية صدام ونزقه، بينما وقف حاكم سوريا حافظ الأسد، زعيم المقاومة العربية والممانعة العربية والبعث العربي والقومية العربية، إلى جانب إيران الفارسية ضد العراق العربي، لأن مصالح الكرسي وقتها كانت تستعين بالإيراني الفارسي على العربي القومي، ولم يخجل كثيرون من القوميين وقتها وهو يغمضون أعينهم عن تلك المفارقة المهينة، ولم يسأل أحدهم نفسه، هل يبيع حافظ الأسد عروبته والعراق لصالح إيران من أجل الكرسي، وكيف استباح لنفسه البعث العربي في سوريا أن يتحالف مع الفرس ضد البعث العربي في العراق.
وفي العام 2003 حيث وقع الغزو الأمريكي للعراق، والذي حظي بغضب وقلق عالمي كبير، وبعد أن بسطت الولايات المتحدة سيطرتها العسكرية على التراب العراقي بكامله وسحقت الدولة والجيش والنظام بكامله، ذهبت إلى مجلس الأمن لكي تشرعن احتلالها للبلد العربي الكبير، وتحصل على الموافقة لتعيين جنرال أمريكي حاكما صريحا لبغداد العروبة، وكان بشار الأسد، ابن حافظ، يحظى بمقعد في مجلس الأمن وقتها، ففوجئ العرب بأن بشار الأسد يمرر قرار احتلال العراق وتنصيب الجنرال الأمريكي حاكما له، ويمتنع عن إدانة القرار لكي يمر بالإجماع، ولم يفكر حتى في مجرد تسجيل موقف ولو شكلي للتاريخ برفضه القرار 1483، ومرة أخرى لم يجد القوميون العرب مسحة حياء، وهم يغمضون أعينهم عن هذا "العار"، وكيف أن بشار باع العروبة وباع العراق للاحتلال الأمريكي، من أجل المحافظة على سلطته وتثبيت حكمه الذي كان قد بدأ قبلها بسنوات قليلة.
نذكر بتلك الوقائع الرأي العام الذي يصدعون رؤوسه اليوم بالحديث القومي العاطفي العذب عن العدوان الأمريكي في سوريا بشار الأسد بطل العروبة ورمزها، لأن عدة صواريخ أمريكية أطلقت على مطار للطاغية قاتل أطفال سوريا فأعطبت بعض الطائرات، رغم أن الأمريكيين هم أنفسهم الذين يحمون نظام بشار الآن من السقوط، ويغضون الطرف عمدا عن أغلب جرائمه، ولو رغبوا في إسقاطه لانتهى أمره خلال أيام قليلة، وحتى اليوم تضع أمريكا "فيتو" على وصول مضادات الطيران إلى الجيش السوري الحر الممثل لقوى الثورة السورية، مما سهل لبشار "التنزه" في الفضاء السوري لهدم المنازل والمساجد والأسواق والمخابز والمستشفيات في مسلسل يومي دموي وإجرامي.
القوميون العرب مهتمون فقط بالهجوم على بشار ونظامه وشبيحته، ولكنهم غير معنيين بالشعب السوري ونسائه وأطفاله، غير معنيين بثمانية ملايين مواطن سوري يهيمون على وجوههم في أرجاء الأرض بحثا عن مأوى وهربا من طائرات المجرم ومن الإرهابيين الذين جلبهم من كل فج عميق، القوميون لا يبكون على حوالي نصف مليون قتيل سوري، ذهبوا فداء لحذاء الطاغية، ومن أجل أن لا ينزل عن كرسي السلطة ويحقن دماء شعبه، القوميون لم يبكوا على الأطفال الذين ماتوا وهم نيام خنقا بغاز السارين السام في خان شيخون، ولكنهم يبكون على "سيادة" خرافية في بلد تستبيحه عشرات الدول والميليشيات أرضا وجوا وبحرا، شمالا وجنوبا وشرقا وغربا، القوميون يعتبرون أن القصف الأمريكي لمطار بشار الأسد عدوانا على سوريا، لكن القصف الأمريكي طوال عامين على المدن السورية والشعب السوري لا يخدش السيادة ولا يمثل عدوانا بل رسالة صداقة، القوميون العرب يعتبرون أن الغزو الإيراني لسوريا الآن وسيطرة الميليشيات الشيعية اللبنانية والأفغانية والإيرانية على التراب السوري هو نضال من أجل العروبة والقومية العربية، ويرون أن فيلق القدس الإيراني الذي لم يطلق رصاصة واحدة تجاه "إسرائيل" ولا من أجل القدس، يخوض معركته الوحيدة منذ نشأته الآن ضد الشعب السوري وثورته.
هوس القوميين العرب بالطغاة الذين تاجروا بقضية فلسطين ليتمكنوا من اغتصاب السلطة الحرام ثم خربوا بلادهم وخربوا فلسطين، وهزموا بلادهم وهزموا فلسطين، وأضاعوا بلادهم وأضاعوا فلسطين، ولم يكونوا ـ عبر السنين، سلما وحربا ـ سوى ميكروفونات للأغاني والهتافات الفارغة والضجيج وادعاء العظمة والنصر ودغدغت مشاعر البسطاء، وتحالف القوميين الدائم مع تلك النوعية من القتلة والمجرمين والفاسدين، هو أقرب لما يمكن وصفه بالعشق السياسي، وفي العشق يصعب أن تتحدث بلغة العقل أو المنطق أو حتى الإنسانية، فقط تعمل على إنهاء حقبة الطغاة والقتلة، فيختفي الظل، وبهلاك المعشوق يتبخر العاشق.