كتاب عربي 21

حماس في عالم متغير

1300x600
في حقيقة الأمر فإن التفكير الاستراتيجي يعبر عن طاقات غاية في الأهمية حينما تكون هناك تكوينات أو تنظيمات حركية تحمل رسالة وتحاول في ظل متغيرات معقدة أن تسمي ما يمكن تسميته بالاستراتيجيات الكبرى التي تتعلق بمراحل فاصلة من تاريخ الشعوب والمجتمعات، وكذا من المهم أن نجعل من هذا التفكير الاستراتيجي حالة تتفاعل من خلالها الأطر المختلفة للحركة ضمن رؤية واضحة وحركة فاعلة ورؤية متكاملة، وتعبر في حقيقة الأمر عن استيعابها للتفكير بالحال والتفكير بالمآل، مما يؤكد ترسيخ الثوابت الكلية والاستيعاب الذكي للمتغيرات الداخلية والدولية والإقليمية.
 
ويبدو لنا أن البعض حينما تصدر وثائق مستجدة فإنه يقارن بين وثائق أخرى سبقتها وربما تعبر عن مرحلة مختلفة وسياق متمايز، وتبدو الأمور في ذلك حينما يعتبر البعض أن هذه تنازلات، وأن هذه الرؤى باختلافها إنما تعبر عن تغييرات جوهرية ويفتح كل ذلك بابا لا يسد من مزايدات ومن تأويلات قد تتحول في بعض الأحيان إلى حالة من الاتهامات. 

ومن هنا يجب ألا نفهم تلك الوثائق التي تخرج عن حركة المقاومة لمحتل غاصب إلا في ظل سياقات تحاول أن تحاصر هذه الحركة والجغرافيا التي تعيش فيها، ليس فقط حصارا ماديا ولكنها كذلك تقوم بحصار معنوي، تقوم من خلاله الخصوم بزراعة الفرقة بين أصحاب المشروع الواحد وتأجيج الخلاف بين قوى وأطراف في وطن واحد، ومن ثم فإن استيعاب الاستراتيجية والمقاومة على بصيرة تحتاج إلى فن يفوت الفرصة على العدو وعلى داعميه من أن ينجحوا في معركة حصار الإرادة، وتمرير هذا الالتفاف المعنوي الذي يشكل في حقيقة الأمر أكبر خطر على حركة تحمل رسالة تتعلق بالتحرير وتطلب في مسالك مقاومتها الفاعلية والتأثير. 

فالاستراتيجيات إن لم تبن على ساقين أساسيتين تجمع بين الساق السياسية والساق المقاومة وتحسن الحركة بهما وعليهما، وتسرع الخطوات حينما يتطلب الأمر ذلك وتتمهل حينما تقتضي المتغيرات بعضا من هذا، وفي إطار يتعرف على ذلك الارتباط الحاسم بين الثوابت الاستراتيجية والتكتيكات العملية، وغاية الأمر في ذلك أن تحدث عملية توظيف واستثمار لكافة الطاقات والأدوات على محدوديتها فتعظم من قدراتها ولكنها قبل ذلك عليها أن تؤمن طاقاتها الفاعلة وإمكاناتها المتكاملة. 

إن عملية التأمين الاستراتيجي باعتبارها حركة فاعلة تؤهل الحفاظ على تلك الرسالة المقاومة، إنما تشكل في حقيقة الأمر منصة انطلاق قادرة على الفعل والتفعيل والفاعلية والتأثير، عمليات بعضها من بعض فتجعل من هذا التفكير الاستراتيجي المتكامل واستراتيجيات المقاومة على بصيرة والقدرة على توقي الأضرار، رغم ما يقوم به الوسط المحيط  في المساهمة في عملية حصار تشكل حدودا وقيودا على المسار والخيار والقرار، وهو يقوم بذلك خطابا وحركة فإنه يعي حقيقة الثوابت التي لا يجب أن تتزلزل وحقيقة المتغيرات التي يفترض ألا تهمل، إنه التفكير الاستراتيجي الذي يحقق وعي الموقف ووعي المرحلة ووعي الطاقة والقدرة والوسع في الحركة والسعة في الاستشراف والتدبير، عمليات تتراكم تحقق ما يمكن تسميته بفطنة وحصافة العقل الاستراتيجي في تحديد مساراته وتأمين خياراته وتعظيم تأثير قراراته، هذا العقل الاستراتيجي الحكيم يجب أن يفهم في سياقاته.

ومن هنا فإن التأكيد على أهداف مرحلية لحصار دعاوي العدو وتحقيق الالتفاف الواجب على ادعاءاته أمر غاية في الأهمية، فإن قالوا دولة على حدود الرابع من يونيو 1967 فإنه يؤكد للعالمين نحن نوافق على ذلك من دون أن ينال ذلك من مصيرية الصراع وعدم التفريط في الأرض أو في الحقوق التأسيسية التي تتعلق بالشعب الفلسطيني، إقرار الأهداف المرحلية جزء لا يتجزأ من التفكير الاستراتيجي الواعي الذي يتحرك ضمن واقع ومعطيات ومتغيرات، وضمن موازين قوى في ظل اضطراب الإقليم بكل دوله فتحقق لحركة المقاومة خيارا هجوميا على العدو الإسرائيلي.

وهو ما جعل نتنياهو ينتفض ويستبق في محاولة لمخاطبة مؤيديه وداعميه في الخارج وفي الغرب "لا تصدقوهم إنهم يخدعونكم"، وكانت الحكومة الإسرائيلية استبقت مؤتمر حماس للإعلان عن وثيقتها السياسية بالقول إن "حركة حماس تحاول أن تخدع العالم بإصدار وثيقة سياسية جديدة تخفف في ما يبدو سياسة الحركة الإسلامية تجاه إسرائيل، لكنها لن تنجح"، إن هذه التصريحات إنما تدل على هذا الفزع الصهيوني المتمثل في رئيس وزرائه الذي يشكل أقصى حالات التطرف وأقساها في هذا المقام ويجعله في حال فزع استراتيجي ضمن هذا الخطاب  الذي استطاعت حركة المقاومة الإسلامية "حماس" أن تدشنه وتمكن له. 

وفي هذا المقام فإن البعض الذي يتحدث عن قبول لتسوية أو تنازلات خطيرة أو تفريط في حقوق شعب فلسطين إنما لا يحسن القراءة ضمن رؤية تشكل حصارا لإسرائيل ومن محاولات تملصها ومع ذلك لا يزال الكيان الصهيوني يتلاعب بالجميع ويتحدث عن الرفض الحمساوي كذريعة لرفضه، إن حصار العدو في الزاوية من أهم الاستراتيجيات التي تجابه حصار حماس ومقاومتها، بحصار إسرائيل وفضحها لتلاعبها بكل التزامات أقرتها مواثيق دولية، فيشكل كل هذا ضغطا يجعل العدو في مأزق وورطة.

وكذلك فإن إدارة الصراع الذي يعد واحدا من أهم عناصر التفكير الاستراتيجي خاصة مع هذا العدو الغاصب المنتهك لكل الحقوق والذي يدير عملية خنق منظمة وممنهجة سواء بترويج أوصاف الإرهاب أو حصار غزة الفاجر الظالم، والذي يسهم فيه بعض نظم جعلت من الأهداف الإسرائيلية، للأسف الشديد، جزءا من سياساتها بل وأمنها القومي.

ومن هنا يشكل إعلان الموقف هذا جزء لا يتجزأ من فضح هذه النظم التي تحاول دعم مسألة الحصار على قطاع غزة وأهلها مدعية أن قوة معينة لا تؤمن ولا تهدف إلى السلام، وتؤكد أن السلام المطلوب لا يمكن أن يكون إلا باسترداد الحقوق واستيفاء المطالب الاستراتيجية، ذلك أن فعل المقاومة باعتماده على سياسة المقاومة والمقاومة بالسياسة بما يحقق حجز العدو الصهيوني في الزاوية، ويستخدم أدواته في الصراع يكون فيها الخطاب السياسي أحد أهم أدواته، فالخطاب استراتيجية غير مكلفة ولكن الخطاب العقلاني الراشد يحرك المواقف إلى مساحات أرحب له في الحركة بينما يضيق على عدو يمارس كل أنواع التهرب والخداع.

إن هذا التفكير الاستراتيجي إنما يشكل طاقة أساسية مضافة للفعل الاستراتيجي من خلال قيادات واعية بصيرة تؤسس لمعاني الخطاب الرصين والفعل المكين، تتعانق فيه كل صنوف الفعل والخطاب لتحقيق الأهداف الكبرى بالوقوف على أرضية من ثوابت التأسيس، حقائق كبرى تتعلق بإدراك لعالم متغير معقد في قضاياه متمدد في تأثيراته متعدد في إمكاناته وطاقاته، ويكون على الفعل المقاوم أن يستثمر كل هذه المخاطر التي تحيط به فيحولها إلى فرص حقيقية في الفعل والفاعلية.