قبل أكثر من ألفي عام، وتحديدا قبل مائتي عام من الميلاد، دارت حرب طاحنة وطويلة بين الإمبراطورية الرومانية، والتي كانت تتخذ من مدينة "روما" عاصمة لها، وبين إمبراطورية قرطاجية، والتي كانت تتخذ من مدينة "قرطاج" عاصمة لها (تقع بالقرب من تونس العاصمة حاليا)، كان الصراع والمنافسة محتدمة بين الطرفين للسيطرة على منطقة غرب البحر المتوسط، استمرت المعارك بين الجيش الروماني والجيش القرطاجي لفترات طويلة ومتقطعة، ولكن تبقى الفترة الأبرز في تلك المعارك هي تلك الفترة التي امتدت أكثر من 18 عاما (218-201 ق.م)، والتي كان على رأس قيادة الجيش القرطاجي حينها القائد الفذ "هنيبعل"، ذلك القائد الذي ما زالت خططه العسكرية تستخدم حتى يومنا هذا. في تلك الفترة تمكن الجيش القرطاجي من تهديد الإمبراطورية الرومانية تهديدا بالغا، حيث عبرت جيوش هنيبعل جبال الألب وغزت أجزاء من إيطاليا واقتربت من روما العاصمة التاريخية والحصينة. على الجهة الأخرى لم يتمكن الرومان من صد هذا الهجوم القرطاجي، فقط تمكن أحد القيادات الرومانية "فابيوس" من وضع استراتيجية تقلل من الخطر القرطاجي والتهديد الدائم لروما.
اعتمد فابيوس على استراتيجية الكر والفر من خلال معارك الاستنزاف الخارجية مع العدو. كان هدف فابيوس الرئيسي من وراء هذه الاستراتيجية هو تقليل حجم خسائر الرومان، ومحاولة إشغال الجيش القرطاجي واستنزافه في معارك صغيرة ومتوالية تُبعد الخطر القرطاجي عن روما. نجحت الاستراتيجية في تحقيق هدف عدم تقدم الجيش القرطاجي نحو روما، ولكن في الوقت نفسه كانت خسائر الجيش الروماني ضخمة وربما لا تتناسب مع مجرد صد وإيقاف الخطر القرطاجي. كانت استراتيجية فابيوس في الأساس تمتلك مقومات عدم النجاح، حيث لم تكن الاستراتيجية تسعى إلى تحقيق النصر وإلحاق الهزيمة بهنيبعل وجيشه، ولكنها اعتمدت فقط على استنزاف قوة الجيش القرطاجي وإبقائه في مكانه دون تقدم، وهو ما جعل المعارك تسير في اتجاه لا يبدو معه أن ثمة نهاية قريبة لتلك الحرب، مع استمرار الاستنزاف في صفوف الجيش الروماني دون تحقيق نصر حقيقي.
بعد عدة سنوات من معارك الاستنزاف بين الطرفين، وفي نفس إطار استراتيجية فابيوس، وقف "تسيبيو"، ذلك القائد الروماني صغير السن، مع جيشه محدود العدد؛ على ضفاف نهر إيبرو (نهر يقع في شمال شرق إسبانيا) للاستعداد للسيطرة على منطقة النهر والدخول في معارك مع الجيش القرطاجي الذي امتلك وراء النهر عدة مستعمرات قوية وغنية بالثروات.
كان تسيبيو يدرك أن ثمة إشكالية في استراتيجية فابيوس التي ينتهجها الجيش الروماني في كل معاركه. فمع الوقت واستمرار الاستنزاف بين الطرفين، ستكون النهاية الحتمية تهديد حقيقي للعاصمة الرومانية، وربما الهزيمة ونهاية مأسوية بسقوط روما. في نفس الوقت، كان تسيبيو يدرك الفارق الكبير في إمكانيات جيش هنيبعل وقدراته الفائقة على المناورة السريعة أمام الجيوش ذات الأجسام الضخمة، وهو ما جعل تسيبيو يذهب بعيدا إلى نقطة لم يسبقه إليها أحد من طرفي المعركة!!
حاول تسيبيو أن يفهم جيدا ويحدد خريطة ومراكز قوى الجيش القرطاجي الذي بلغ عدده في ذلك الوقت ضعف عدد الجيش الروماني، وامتد في جميع أنحاء إسبانيا مسيطرا على أغلب القبائل الإسبانية. على بعد عدة أميال من هذا المشهد الذي لا تبدو من خلاله أي إمكانية لتحقيق انتصار للرومان حتى لو بدا جزئيا، كانت تقبع في هدوء مدينة قرطاج الجديدة (تسمى الآن "قرطاجينا" وهي مدينة ساحلية تقع في جنوب شرق إسبانيا).. لم تكن تلك المدينة سوى مستودع ثروات الجيش القرطاجي ومركز إمداداته الرئيسي ونقطة انطلاق الدعم اللوجيستي للجيوش القرطاجية في إسبانيا، في ذلك الوقت جاءت التقارير لتسيبيو بمعلومة بسيطة ولكنها فيما بعد ستمثل تحولا هاما في مسار المعارك بين الطرفين. لم يكن يوجد في قرطاج الجديدة سوى 1000 جندي فقط، حيث كانت بقية الجنود والقيادات العسكرية منشغلة في معارك في مناطق مختلفة في إسبانيا. بدت المعلومة بسيطة لحاملها إلى تسيبيو، لكنها مثلت لتسبيو نقطة الانطلاق في تدشين استراتيجيته التي سينتهجها فيما بعد في معركته مع القرطاجيين. هكذا اكتشف تسيبيو أحد أهم مراكز قوى الجيش القرطاجي، والتي مثلت في نفس الوقت نقطة ضعفه الأبرز.. بدت ملامح استراتيجية تسيبيو في التشكل فورا، قرر أن يترك نهر إيبرو ويذهب بعيدا.. هناك حيث تقبع مدينة قرطاج الجديدة بعيدة عن الأنظار. انطلق تسيبيو مسرعا بجيشه نحو المدينة في الوقت الذي كان الجيش القرطاجي يستعد لملاقاته عند نهر إيبرو، هكذا خالف تسبيبو كل التوقعات وذهب ليقوم بلدغة الثعبان في جسد الجيش القرطاجي، والتي ستحدث فيما بعد خللا هائلا في موازين القوى بين الطرفين لصالح الجيش الروماني. غارة سريعة كانت هي ما قام به الجيش الروماني بقيادة تسيبيو حتى يسيطر على أهم نقاط الإمداد بالمال والجنود للجيش القرطاجي. هكذا نجح تسيبيو في الاستيلاء على قرطاج الجديدة بسهولة.
سنوات قليلة بعد لدغة الثعبان استطاع فيها الرومان فرض سيطرتهم الكاملة على إسبانيا وطرد الجيوش القرطاجية منها وذهبوا إلى أبعد من ذلك، إلى عقر دار القائد هنيبعل في قرطاج نفسها، لتنتهي قصة الجيش القرطاجي والقائد القوي هنيبعل وتصبح قرطاج إحدى المدن التابعة إلى روما.
تحمل قصة الحرب بين الرومانيين والقرطاجيين الكثير من التفاصيل والكثير من الدروس والعبر، لكن يبقى أحد أهم تلك الدروس المستفادة هي تلك الاستراتيجية التي دشنها تسيبيو لتغير من مسار المعارك بشكل كلي في صالح الجيش الروماني.
ليست العبرة إذن بتوجيه الضربات إلى العدو وليست العبرة بقوتها وحجمها فقط، ولكن العبرة بقدرتها على إحداث خلل في أحد أهم مراكز القوة لدى العدو، ذلك العمود الذي يرتكز عليه ويمثل مركز قوته، ولكنه في نفس الوقت يمثل نقطة ضعفه الأبرز، والتي تتسبب توجيه ضربة مؤثرة إليه في بداية سقوط العدو وانهياره. تبدو الإشكالية دائما في تلك الاستراتيجية في أكثر من نقطة جوهرية تمثل عصب تلك الاستراتيجية وهي:
* القدرة على تحديد هذا العمود بدقة، وهو أمر لا يتوقف فقط على حجم المعلومات التي لديك عن عدوك، ولكنه بالأساس يتوقف على كيفية قراءة تلك المعلومات بنظرة أكثر جرأة ومن زوايا مختلفة ليتوفر لك خريطة متكاملة ودقيقة عن أبرز مراكز القوى لدى عدوك وعلاقتها ببعضها البعض. ويحتاج الأمر إلى الابتعاد عن المظهر الخارجي القوي للعدو، والذي ربما يكون خادعا ومبهرا والغوص في أعماق جسد العدو لتصل إلى تلك النقطة الحساسة ومركز قوته الأبرز.
* الإمكانية على إصابة ذلك العمود بشكل يسبب خللا واضطرابا حقيقيا، وهذا الأمر يتطلب نظرة واقعية أبعد ما تكون عن النظرة الحالمة أو الرغائبية، بحيث يمكنك من خلالها تحديد إمكانياتك وقدراتك على توجيه ضربة مؤثرة إلى ذلك العمود.
* التوقيت الملائم، وهو يتطلب أيضا قراءة واعية لكل ما يحيط بك خارجيا من مؤثرات ومتابعة دقيقة للعدو لتحيُّن الفرصة والتوقيت الملائم لإنفاذ لدغة الثعبان وإصابة مركز أعصاب العدو إصابة بالغة.
* يكفي فقط إذن تحديد ذلك العمود بدقة ثم الوصول إليه بقدرات مناسبة وفي توقيت ملائم، بعد ذلك لن يكون عليك سوى المسارعة بالانقضاض على ذلك العمود وتحطيمه بلا هوادة.
(هذا المقال يستوحي فكرته من أحد فصول كتاب "33 استراتيجية للحرب" للكاتب "روبرت جرين").