قبل ثلاثة أسابيع تقريبا اصطحبتُ ابني عبد الرحمن البالغ من العمر ست سنوات ونصف؛ إلى صلاة
الجمعة، وصلنا إلى
المسجد ثم جلسنا في أقرب مكان مناسب، وبعد دقائق معدودة صعد الخطيب على المنبر وألقى تحية الإسلام ورُفع الآذان، ثم بدأ الخطيب يحمد الله سبحانه وتعالى ويثني عليه بما هو أهله بصوتٍ مرتفع، كأنه في حربٍ صاخبة، فقلتُ في نفسي ربما أساء البداية وسيخفض صوته بعد قليل، غير أنه بدأ يصرخ أكثر فأكثر حتى مضى على حاله هذا أكثر من عشر دقائق تقريبا، نظرتُ خلالها إلى عبد الرحمن فوجدته واضعا يديه في أذنيه لتخفيف حدة الصوت الذي تعدى مرحلة الإزعاج، وخصوصا أن ميكروفونات المسجد الداخلية بحالة جيدة. وفجأة بدأ صوت الخطيب يهدأ عندما أُصيب ببحة في حنجرته أخفت معالم الحروف والكلمات فلم نعد نسمع ما يقوله.
هذه الطريقة في الخِطابة وغيرها من الطُرق التي تكتسي ألوانا مختلفة من السلبية المقيتة، مثل التنطع في لفظ الحروف أو التعجرف في توصيل الفكرة، أو تقليد الآخرين في نطق الكلمات وأداء الحركات أو الإطالة في زمن
الخطبة، أو التعقيد في طرح الموضوع وأهدافه، أو الضعف في استخدام اللغة وألوانها هي طُرق غير مجدية لتحقيق مقاصد يوم الجمعة وأهدافه السامية، لا سيّما ونحن نتحدث عن مؤتمر أُسبوعي تعبدي وجب على كل مسلم بالغ عاقل حضوره والتفاعل معه بقدر الإمكان الذي نحقق من خلاله ثمارا إيجابية تؤثر على المجتمع ومجالاته المختلفة.
هذا على صعيد التعبير الخطابي، أما على صعيد المضمون فنحن مطالبون بتغيير حالة العجز التي شلت أركان طاقات المجتمع، فالمبالغة في استدعاء الماضي وخطاب الغائب على حساب الحاضر والمستقبل خطاب لا يكاد ينفك عن ألسنة الخطباء في عالمنا العربي والإسلامي، فإذا ما تحدثوا عن العدل كان عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز، وإذا ما تحدثوا عن الجهاد والتضحية كان خالد بن الوليد وصلاح الدين الأيوبي، وإذا ما تحدثوا عن أحوالنا اليوم أصبحوا ينادون: أين عمر؟ وأين صلاح الدين؟ وكأن الأمة لم تُنجب غيرهم مع فضلهم المحفوظ ومكانتهم السامقة.
والمبالغة أيضا طالت الحياة وأنماطها المختلفة، فالموت والزهد في الحياة سجية الخطيب وديدنه المتعارف عليه في اختيار مواضيع الخطابة، وكأنَّ الله سبحانه وتعالى لم يخلقنا لعمارة الأرض وتطويرها، غير أنها حالة العجز المتشابكة، والفوضى التي أرهقت أعصاب المسلمين.
كما أنَّ الخطاب العاطفي القائم على التعميم المطلق في فهم التاريخ، ونصب العداء مع الآخر، وتجريم الدول والشعوب الأخرى، وتفريغ الطاقات في الحقد الحزبي، والشتائم التصنيفية للآخرين شوه الفكر ومعاييره عند الكثير من الشباب، وشجع على سلوكهم غير المنضبط بتعاليم الإسلام الحنيف.
إن الخطاب المنبري هو انعكاس طبيعي لمجموعة كبيرة من المشكلات التي تُعاني منها المجتمعات العربية والإسلامية في المجالات كافة؛ لا سيما وأن الخطبة تدخل في الإطار النظري الذي يُعد الأسهل مقارنة بالإطار العملي الذي فقدناه منذ زمن طويل، مما يُشجع أصحاب النفوس المريضة على ولوجه بسهولة ويُسر، بغية الشهرة أو تبرير نفسي بأداء الواجب المناط به؛ لذلك وجب اتخاذ إجراءات عدة أبرزها: تأهيل الخطيب علميا ونفسيا وتربويا؛ لما يمثله من أهمية محورية في تفاعله مع المستمعين، وذلك من خلال تغيير مناهج الجامعات والمعاهد بما يلزم تأهيل الخطيب فكرا وثقافة وسلوكا، وتدريبه من خلال برامج دائمة التحديث يُشرف عليها مختصون في مجال الشريعة وعلم النفس وعلم الاجتماع والتربية، وعدم خلط الخطاب الديني بالخطاب الحزبي، وعدم السماح لأي متدرب أن يتلاعب بعقول ومشاعر الناس؛ لأن الخطاب الإعلامي وخصوصا المنبري أهم من عملية جراحية يقوم بها طبيب لإنقاذ شخص من الموت.
* دكتوراه في الدعوة والإعلام