بعد نحو خمسة وعشرين يوما في أرض فلسطين والاطلاع عن كثب على ما يجري
في البلاد من مآس وتحديات ومواجهات أود أن أشارك القراء في بعض الانطباعات
والملاحظات الختامية. لقد أتيحت لي فرصة المشاركة في خيمة الاعتصام في قرية الخان
الأحمر، والتقيت بعدد كبير من المسؤولين، وزرت العديد من المدن والمخيمات والقرى،
وشاركت كمتحدث في مؤتمر عن الأسرى تحت عنوان «الأسير إنسان»، واستقبلت تحرير عهد
التميمي في قرية النبي صالح، وزرت مخيم الدهيشة، وقابلت عائلة الشهيد الطفل أركان
مزهر وعائلة الشهيد القائد معتز زواهرة، وتحدثت مطولا مع رجال دين ورجال أعمال
ونشطاء الفصائل والمجتمع المدني.
تميزت
هذه الفترة بالضياع والتردد واللامبالاة من جهة المسؤولين، لكنها تميزت أيضا
بثلاثة تطورات كبرى كانت موضع اهتمام الإعلام والدوائر السياسية- قرار هدم قرية
الخان الأحمر وتحرير عهد التميمي ووالدتها وقرار الكنيست بتعريف القومية اليهودية.
وأود أن أشارك القراء ببعض الملاحظات والانطباعات.
أولا-
أين نحن ذاهبون؟
لا
جواب عن السؤال المكرر دائما إلى أين تسير سفينة الوطن؟ أين القيادة الفلسطينية من
هذه التطورات وماذا تعمل وهل لديها إستراتيجية لتحقيق أي شيء بعد صفقة القرن؟
أيكفي أن تصدر بيانا برفضها؟ وهل إغلاق الباب فقط يعني نهاية الخطر؟ فإذا كانت
المفاوضات متوقفة تماما وإذا كانت المقاومة السلمية وخاصة في الضفة تكاد تقتصر على
بعض الأحداث الفردية والمظاهرات الصغيرة والاعتصامات وتنتهي عادة باستشهاد أحد
اليافعين واعتقال العشرات فماذا بعد؟ أين اختفت القيادات والفصائل والأحزاب
والمنظمات السياسية؟ بالكاد تسمع أخبار أي من رموز السلطة الأساسيين سوى أخبار عن
اجتماعات وتوزيع حقائب واستقبالات وزيارات خارجية.
القيادة
لا تريد مقاومة سلمية واسعة ولا تريد حل السلطة وتسليم المفاتيح لنتنياهو كما أعلن
مرة أبو مازن، ولا تريد إنقاذ غزة وتستمر في وقف المساعدات ولا حوارات المصالحة
أنجزت شيئا. فما دامت القيادة عاجزة الآن عن تحقيق أي إنجاز على طريق الدولة
المستقلة إذن ماذا بعد؟ لقد فقدت الحركة الوطنية الفلسطينية برمتها البوصلة فلا
أحد يعرف أين تتجه الأمور. حقيقة سفينة الوطن تسير على غير هدى تتقاذفها الأمواج
العالية. لقد أصيب الربان بحالة دوار البحر والركاب خائفون وشلة من القراصنة
مستفيدة من الوضع وتريد للوضع الراهن أن يبقى على حاله. لقد أصبحت جعبة القيادة
خالية من السهام بانتظار غودو الذي للأسف لن يأتي.
ثانيا- ظاهرة عهد التميمي
يوم
الأحد 22 تموز/ يوليو كنت من بين شهود العيان للحظة إطلاق سراح عهد التميمي
ووالدتها ناريمان في بلدة النبي صالح غربي رام الله. لقد حظي تحرير عهد بتغطية
صحافية غير مسبوقة، وأعطيت الفتاة من الاهتمام ما لم يحظ به لا أسير سابق ولا حتى
شهيد تذكرني بالتغطية الصحافية التي رافقت استشهاد الطفل محمد الدرة.
لكن
حملة قاسية أطلقت على صفحات التواصل الاجتماعي تنتقد «عهد» وتعتبرها ظاهرة مفتعلة
ولا تستحق كل هذا الاهتمام. ومن جهة أخرى أطلقت التيارات الإسلامية حملة ضد عهد
على أرضية أخرى تنتقد سفورها وغياب الحجاب الذي كان يجب أن يلم شعرها. وكلا
الحملتين ظالمتان مغرضتان لا تستحقان أكثر من الازدراء.
ليس
ذنب عهد أن تكون موضع اهتمام الصحافة. فهذه مشكلة الصحافة التي تبحث عما يجذب
القارئ والمشاهد. وهنا قصة جذابة بالتأكيد أكثر من تحرير فتاة أخرى عادية قضت
محكوميتها وخرجت من الأسر.
هناك
ثلاث ميزات توفرت في قضية عهد لم تتوفر في أي قضية أخرى: أولا أن الناس تعرفها
وتتذكر الصفعة التي وجهتها للجندي الإسرائيلي عام 2012 وعمرها 11 سنة وصرخت في
وجهه: أتظنني أنا خائفة منك واستطاعت بمساعدة والدتها تخليص أخيها محمد من أيدي
الجنود. ظلت صورتها محفوظة في الذاكرة الجمعية للشعب الفلسطيني والشعوب العربية
وأنصار السلام. فعندما كررت الصفع والركل لجنديين من أمام بيتها يوم 18 كانون
الأول/ديسمبر الماضي استقرت الصورة أكثر وأصبحت رمزا للطفولة التي رغم براءتها
ترفض الهوان والذل والقهر وتنتصر لكرامتها، وهذه هي الصورة الرمزية الحقيقية للشعب
الفلسطيني.
وثانيا، عهد جاءت من عائلة مناضلة كل أفرادها تعرضوا للاعتقال فسجن والدها باسم ثماني مرات
ووالدتها ست مرات وأخوها وعد موجود الآن خلف القضبان وعمتها استشهدت على أيدي
مستوطنين في المحكمة وخالها أيضا ستشهد أمام عيون أمها. فكيف لا تعتمل البراكين
والزلازل في قلب الفتاة الصغيرة وتترجم كل هذا الغضب إلى صفعة حامية لوجه الجندي
القبيح المدجج بالسلاح ليصل صداها إلى أركان المعمورة؟
وثالثا، لقد ساعد الشكل الخارجي في تثبيت الصورة الجميلة لفتاة بريئة، عكس الصورة
النمطية التي تعممها إسرائيل عن الفلسطينيين. فالفتاة الشقراء كان يمكن أن تكون
الفتاة النموذجية في مدرستها أو مغنية أو محامية أو ممثلة أو رمزا للجمال لكن الاحتلال
وقهره وظلمه حولها إلى بطلة قبل الأوان وجعل منها «أيقونة المقاومة السلمية» بدل
أن تسير في طريق طفولتها نحو النجومية والإبداع.
أما
حملة الإسلامويين على قصة الحجاب فلا تستحق إلا الازدراء فهم ليسوا أوصياء على
الناس ليقولوا لهم ما يلبسون وما لا يلبسون. إنهم بهذا يحتكرون سبل النضال وكأنهم
يعطون فرمانات حسن سلوك لمن يلتزم بأيديولوجيتهم فقط. طرق النضال مفتوحة للجميع
فلا ينصبن أحد نفسه على مسلكيات العباد، فمقاييس هذه الأيام للنضال والمواجهة وليس
هناك من وقت لإضاعته في الحديث عن الحجاب فالسلوك النضالي لا يقاس بقطع القماش بل
بمواجهة جنود الاحتلال.
ثالثا-
بين الخان الأحمر والأغوار
ما
زالت قصة هدم قرية الخان الأحمر وطرد سكانها من عرب الجهالين الذي يسكنون هذه
القرية البدائية منذ عام 1950 موضع اهتمام الرأي العام في فلسطين. وقد تحولت خيمة
الاعتصام إلى خشبة نجاة لبعض القيادات للظهور في الخيمة وإعطاء تصريحات للمحطات
الفضائية الموجودة بشكل متواصل. ومع أني أثمن هذه الوقفات المتواصلة إلا أن
إسرائيل عمدت على المماطلة وتأجيل الهدم كي يخفت الاهتمام الشعبي بالقرية لكن جميع
المؤشرات تشير إلى أن الهدم حاصل لا محالة ضمن خطط إسرائيل لربط المستوطنات
المحيطة بالقدس من الجهة الشرقية والشمالية لتصبح القدس الكبرى متواصلة دون تجمعات
فلسطينية مترابطة، وبالتالي يتم قطع شمال الضفة عن جنوبها تماما ما يلغي إمكانية
قيام أي كيان فلسطيني مترابط في الضفة الغربية وهي الرؤية المجسدة في صفقة العصر
بحيث لا يكون هناك دولة فلسطينية في الضفة الغربية والقدس الشرقية لا الآن ولا في
المستقبل.
الشيء
الخطير الذي لا يعرفه الكثيرون هو أن إسرائيل استغلت انشغال الرأي العام بموضوعة
الخان الأحمر ونهبت آلاف الدونمات في منطقة الأغوار شمال أريحا والمحاذية لنهر الأردن
كي تقطع أي تواصل جغرافي في المستقبل بين أي كيان فلسطيني وعمقه الطبيعي في
الأردن. تبلغ مساحة الأغوار 240 ألف دونم، وبها 7 مستوطنات كبرى و3 بؤر استيطانية.
وقد أطلق الاحتلال أيادي المستوطنين لترهيب السكان والعمل على تهجيرهم لتسهيل
السيطرة الكاملة على سلة الغذاء الفلسطينية. وتستخدم سلطات الاحتلال سياسة هدم
البيوت بشكل أسبوعي، فقد هدمت منذ عام 2009 وحتى عام 2017، ما مجموعه 350 بيتاً
و719 منشأة في منطقة طوباس. وهناك إجماع لدى الأحزاب الإسرائيلية بأن لا يكون هناك
وجود للفلسطينيين (إلا كأفراد) بين إسرائيل والأردن في تلك المنطقة لأهمية الأغوار
الشمالية من الناحية الإستراتيجية كشريط حدودي من جهة وكمنطقة زراعية غنية.
المأساة أن القيادات والأحزاب الفلسطينية غير معنية بما يجري في الأغوار ويكتفون
بظهورهم في خيمة الاعتصام.
رابعا-
قانون القومية اليهودية
القانون
الدستوري الأساسي الذي اعتمده الكنيست يوم 18 تموز/يوليو من أخطر التحولات
الأيديولوجية في تاريخ الكيان الصهيوني منذ إنشاء الحركة الصهيونية في أواخر القرن
التاسع عشر. وقد كتب الكثير عن القانون وتحدثت مطولا مع بعض أعضاء الكنيست العرب
حول الموقف منه. وأريد باختصار أن أشير إلى أن القيادة الفلسطينية تتصرف وكأنها
غير معنية بهذا القانون، فقد كان رد الفعل باهتا وخجولا مع أن هذا القانون يعطي للفلسطينيين
عامة فرصة كشعب واحد موحد مواجهة وفضح دولة أبارتهايد عنصرية.
هناك
خلافات بين قيادات الشعب الفلسطيني داخل فلسطين التاريخية حول خطة مواجهة هذا
القانون. فهناك رأي يقول بضرورة استقالة النواب الثلاثة عشر من الكنيست. وهناك رأي
يقول لو حدث ذلك ستتجه الجماهير العربية لانتخاب رموز وقيادات غير وطنية ربما تكون
لها ارتباطات مع الأحزاب الصهيونية. وهناك رأي يقول بتعليق عضوية النواب العرب
لمدة ثلاثة أشهر كنوع من الاحتجاج بصوت عال يتم خلال هذه الفترة البحث عن رد منطقي
ومعقول ومؤثر لهذا القرار الخطير الذي قطع كل علاقة للفلسطينيين مع وطنهم وتاريخهم
وحضارتهم. وخلاصة القول إن هذا القانون ليس قدرا على الفلسطينيين بل إن إفشاله
ممكن إذا ما عاد الفلسطينيون إلى ثوابت قضيتهم الممثلة في وحدة الشعب ووحدة الأرض
ووحدة الهدف.
عن صحيفة القدس العربي