كتب كثيرون في الفترة الأخيرة عن الأزمة الاقتصادية في تركيا وانهيار العملة التركية، واختلفت الآراء بين من يفسر الأمور بمنظور المؤامرة كعادة كثير من شعوب منطقتنا، وآخـــرون أكثر حصافة يعبرون عن آراء اقتصادية جيدة، إلا أن التفسير الأدق والأكمل صورة يأتي عادة من المحللين الماليين الممارسين عمليا في أسواق العملات Practitioners والمختصيـــــن فـــي اقتصادات وأسواق الدول الناشئة Emerging market وفــــــي رأي المجموعة الأخيرة، تبدو الأسباب واضحة، وتتلخص في الآتي:
- أحد أهم أسباب انهيار العملة التركية هو الخلل الكبير
الذي يعانيه الاقتصاد التركي في ميزان المدفوعات Balance of payments.
وهذا بمعناه البسيط أن قيمة الصادرات التركية من صناعات
وغيرها تقل بكثير عن الواردات من سلع وغيرها، وكذلك الدخل بالعملات الصعبة من
السياحة والاستثمارات الخارجية في تركيا يقل بكثير عن حجم العملات الصعبة التي
تخرج من تركيا لتمويل الإيرادات والديون الكبيرة على القطاعين العام والخاص. ذلك
الخلل هو نتيجة عدم قدرة تركيا خلال السنين الماضية على تطوير وزيادة الصادرات
وأيضا عدم قدرة الاقتصاد التركي على جذب الاستثمارات الخارجية النوعية التي كان من
الممكن أن تجعل من الاقتصاد التركي أكثر إنتاجية وتنافسية.
- ولأن الاقتصاد التركي قد بدا منذ فترة ضعيفا وهشا في
مواجهة تلك المصاعب، ومع تصاعد اعتماد الاقتصاد التركي على القروض الخارجية، فإن
الارتفاع الأخير لأسعار الفائدة والعملة الأمريكية قد نتج عنه تراجع كبير لليرة
التركية مقابل الدولار. وتجدر الإشارة هنا إلى أنه مع حدة التراجع الأخير للعملة
التركية، إلا أن ذلك لم يكن هو التراجع الأول خلال السنوات العشر الماضية، فلقد
هبطت قيمة الليرة التركية من نحو ليرة مقابل الدولار عام 2007 إلى ليرتين مقابل
الدولار، وثلاث ليرات مقابل الدولار، وأربع ليرات مقابل الدولار في السنوات
اللاحقة إلى أن وصلت خلال هذه السنة 2018 إلى أكثر من ست ليرات للدولار الواحد.
هذا الهبوط المستمر والمتلاحق سنة بعد سنة لليرة التركية لمدة عشر سنوات هو المؤشر
الواضح على عمق المشكلة التركية، وهو أحد أوجه الاختلاف بين ما يحدث اليوم في تركيا
وما حدث في الأزمة المالية الآسيوية عام 1998.
- تختلف الأزمة الحالية في تركيا عن أزمة الدول الآسيوية
في أنه رغم كون الأخيرة قد تعرضت لمشكلة الديون الخارجية كما هو الحال في تركيا،
إلا أن الدول الآسيوية كانت تتمتع وقتها بقاعدة اقتصادية قوية لاسيما في مجال
الصادرات والقدرة على بناء احتياطيات مالية ضخمة من العملات الصعبة. ولهذا فلم
تستمر الأزمة المالية الآسيوية طويلا. واستطاعت الدول الآسيوية في مدة قياسية
العودة ليس فقط لمستويات النمو السابقة بل تعدت ذلك إلى مستويات قياسية جعلت منها
الأقوى نموا في العالم. وتمكنت تلك الدول الصاعدة من بناء أصول سيادية ضخمة من
العملات الأجنبية كرافد كبير لاقتصاداتها وقت الأزمات.
ويجمع كثيرون على أن السياسات العامة للحكومة التركية هي
الحاضن الأساس للمصاعب الكبيرة التي يمر بها الاقتصاد التركي. وبدا في نظر الأسواق
العالمية وكأن الفريق الحالي المسؤول عن إدارة الأزمة غير قادر على مواجهة
التحديات الكبيرة التي تواجه الاقتصاد التركي، ما ينذر بمصاعب أخرى قد يتعرض لها
الاقتصاد التركي خلال الفترة المقبلة.
ولهذا فإن من غير المتوقع أن يحدث تغير في المسار
التراجعي لليرة التركية بشكل عام خلال الأشهر والسنوات المقبلة ما لم يحدث تغير
جذري في السياسة التركية لتكون أكثر جاذبية للاستثمار وأكثر توافقا مع شركائها
التجاريين.