حرّي القول، إن الكاتب في العادة، قبل أن يتناول حدثا سياسيا في
مقالته الدورية، يمحّصه من مختلف جوانبه قبل البدء في خطّة كتابته، فالكلمة
مسؤولية، وهي التزام أخلاقي وتحليلي حدثي أمام القارئ، من هنا تكتسب الكلمة
والتحليل أهمية مضاعفة لدى كاتبها وقارئها أيضا.
في
موضوع عنوان المقالة، نتمنى كفلسطينيين العيش في دولة مستقلة كاملة السيادة مثل كل
شعوب العالم الأخرى، ولكن في حالتنا الفلسطينية الراهنة (مع التشديد على الكلمة)،
فإن تحقيق الشعار، الذي خرج به اجتماع المجلس المركزي الأخير، الذي كنا نتمنى
كفلسطينيين لو تم عقده بالتوافق، فهو، وما سبقه من عقد للمجلس الوطني مكانا وزمانا
وإعدادا، تمّا بدون حضور الجميع.
تحقيق
الشعار المطروح أكثر من صعب، وأكبر من معقّد، نظرا لاستثنائية عدونا، وطبيعة
سيرورة تحولاته المتجهة نحو يهودية دولته، وتأكيده يوميا حقّه في كلّ أرض فلسطين
التاريخية، وسنّه للقوانين المؤكّدة لهذه السيرورة.
تحقيق
الشعار مرتبط أيضا بخصوصية نضالنا الوطني الممتد على مدى زمني ينوف عن القرن.
يرتبط الشعار أيضا بموازين القوى الفعلية على الأرض بين طرفي الصراع، وما ننتهجه
كفلسطينيين من أساليب نضالية مؤثرة في سبيل تغيير ميزان القوى مع العدو، وهو الذي
لا يستجيب مطلقا للغة المناشدة وقوانين الشرعية الدولية، بل يخضع ككل المحتلين
لمبدأ الإجبار على التنازل، تحت وطأة الضربات المتتالية لقواه البشرية
والاقتصادية، حيث يصبح احتلاله مشروعا خاسرا بالمعنيين السابقين، وبالمعاني الأخرى
بالطبع.
تحقيق
الشعار مرتبط أيضا بما تطرحه الإدارة الأمريكية المتصهينة من مشروع «صفقة القرن»،
وما في جعبتها من مشاريع قرارات لشطب حق عودة اللاجئين الفلسطينيين، من خلال خطوات
أبرزها، إيجاد تعريف جديد لمعنى اللاجئ، وشطب الأونروا، وفصل قطاع غزة عن الضفة
الغربية فصلا نهائيا، ما يشي بأن بنود صفقة القرن، آخذة في التنفيذ المتدرّج على
نار هادئة، حيث يبدو أن بعض الأطراف الفلسطينية ترى نفسها تنزلق تدريجيا بإرادتها
أو بغيرها في دائرة هذه الصفقة. تساعد في ذلك مجموعة العقوبات قديمها وجديدها
المفروضة على غزّة، التي للأسف تعمل على تعميق الشرخ الفلسطيني، لذا تبدو مفاوضات
القاهرة، وكأنها ليست أكثر من مجرد خطوة «رفع عتب» من قبل طرفي الانقسام، قبل مضيّ
كلّ منهما للسير قدما في خياراته.
تحقيق
الشعار مرتبط أيضا بالوضع العربي الرديء، الذي انقلب في معظمه من تأييد ولو لفظي
للفلسطينيين، بدون فعل ملموس، إلى تأييد، بل إقامة تحالف مع العدو الصهيوني. يأتي
هذا المستجد من النظام الرسمي العربي، وسط ضعف بارز في أطراف المعارضة العربية،
وفقدان قدرتها على البدء في عملية تغيير تدريجية لإعادة استقطاب الجماهير العربية
نحو انتهاج خطوات عملية تفرض على الحكومات العربية نهجا وطنيا، وإعادة الاعتبار
للقضية الفلسطينية كقضية مركزية للأمة العربية من المحيط إلى الخليج. تحقيق الشعار
مرتبط أيضا بالوضع الإقليمي، الذي هو في حال لا يحسد عليها، فأكثر ما حلم به
الكيان الصهيوني، انتفاء كونه العدو الأكبر للفلسطينيين والعرب، وتوجيه الأنظار
لاختيار أعداء بديلين له في المنطقة، وهذا ما شهدناه ونشهده حاليا.
بالضرورة،
يتوجب إلقاء الضوء قليلا على الأسباب التي أدت بالحال الفلسطيني إلى هذا الوضع
الذي هو عليه؟ السبب الأول هو عدم إدراك حقيقة هذا العدو، ومخططاته وأهدافه
لفلسطين والبعيدة المدى للمنطقة بشكل عام، وعدم قراءته جيدا، وتحولات شارعه، مواطن
قوته وثغرات ضعفه، وحقيقة خلفية الخطوات التي ينتهجها في ما اصطلح على تسميته بـ
«عملية السلام». أذكر خطابا لرابين عندما ناقش الكنيست اتفاقية أوسلو عام 1993،
أنه قال ما معناه «وقّعت الاتفاقية ووافقت على دخول آلاف المخربين إلى المناطق،
لأحكم قبضتي عليهم، وكي لا نكون بعيدين عن قرارهم السياسي»! التصريح بالطبع يعني
ما يعنيه، ومن الأهم قراءة ما بين سطوره.
أيضا نشرت صحيفة «يديعوت أحرونوت» (10 مارس/آذار 2018) مقاطع مُختارة
من كتاب بعنوان «لا مكان للأحلام الصغيرة» الذي يتضمن السيرة الذاتية لرئيس دولة
الاحتلال السابق شمعون بيريز، الذي لم يتمكن من نشره في حياته، وتعمل عائلته حاليا
على إصداره. تقول الصحيفة «يعتقد بيريز أن أهم حدث في ترسيخ إسرائيل كدولة في
المنطقة، هو اتفاق أوسلو الذي تمّ التوقيع عليه بين الحكومة الإسرائيليّة
ومنظمّة التحرير الفلسطينيّة في سبتمبر/أيلول عام 1993. يسمون بيريز «الثعلب»،
بالفعل هو مهندس اتفاقيات أوسلو، ومشروعه للشرق الأوسط الكبير (الجديد) طرحه في
كتابه الذي يحمل ذات الاسم، ويدعو فيه إلى تزاوج العقل اليهودي بالأموال العربية.
أما إسحق شامير فقد صرّح في مباحثات مدريد عام 1991 قائلا «سنطيل
المفاوضات مع الفلسطينيين عشرين عاما»، وبالفعل هذا ما حصل. اتفاقيات أوسلو ألزمت
السلطة الفلسطينية بمبدأ «التنسيق الأمني» مع العدو، الاتفاقيات تركت القضايا
الأهم في البحث لما سميّ بمباحثات الوضع النهائي. أذكر تصريحا للرئيس الجنوب
إفريقي نيلسون مانديلا، وهذا ما أكده في مذكراته بعنوان «رحلتي الطويلة من أجل
الحرّية»، قال فيه: «لقد نصحت الرئيس عرفات ببحث القضايا الأساسية أولا والوصول
إلى اتفاق تقبلون به حولها، ومن ثم يجري التوقيع، ونصحته أيضا بعدم ترك الكفاح
المسلح، لأننا مارسنا هذا مع نظام الفصل العنصري».
السبب
الثاني لوصول الحال الفلسطيني إلى ما هو عليه، هو الثقة العمياء للجانب الرسمي
الفلسطيني عند توقيع اتفاقيات أوسلو عام 1993، بأن إسرائيل ستوافق حتما على إقامة
دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة، رغم كل المقدمات التي وشت عكس ذلك، ولعل
أهمها، ضم القدس المحتلة إلى إسرائيل في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1967، فرض
الحقائق الاستيطانية على الأرض، المناداة الإسرائيلية بـ»حكم ذاتي» للفلسطينيين
وغير ذلك. لقد تم قطع الطريق على الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي بدأت عام 1987،
والتي لو قُدّر لها الاستمرار، لحولّت مشروع إقامة الدولة الفلسطينية من إمكانية
نظرية إلى أخرى واقعية، وهنا يتوجب التدقيق في كيفية استثمار النضالات الجماهيرية
في الخطوات السياسية المتخذة. فالاستثمار السياسي مرهون بقانون استغلال النضال
لصالح المشروع الوطني، وليس لدفعه عكسيا! بالمعنى الفعلي عندما أعاد شارون اجتياح
الضفة الغربية عام 2002، أعلن رسميا حينها «بأن اتفاقيات أوسلو قد ماتت».
السبب الثالث في ما آلت إليه أحوالنا يتمثل في: أن الهدف الإسرائيلي
للعدوان الصهيوني على لبنان عام 1982، تمثّل في ضرب إخراج المقاومة الفلسطينية من
أراضيه، وتوزيعها في الشتات، وهذا ما جرى فعلا. ثم كانت اتفاقية كامب ديفيد بين
مصر وإسرائيل، وهو ما وشي بقيام ضغوطات رسمية عربية على الجانب الرسمي الفلسطيني
لانتهاج ذاك الطريق.
السبب الرابع، هو ثقة القيادة الرسمية الفلسطينية بأن الولايات
المتحدة قد تكون وسيطا نزيها في الصراع الفلسطيني العربي ـ الصهيوني، وهذا مجاف
للواقع، لذلك جرى تعديل الميثاق الوطني الفلسطيني في دورة المجلس الوطني الـ21 في
غزة عام 1996 بحضور الرئيس بيل كلينتون، الذي أصر كما إسرائيل على شطب هدف تحرير
فلسطين من النهر إلى البحر، وإزالة كل البنود المتعلقة بالكفاح المسلح، من الميثاق.
إن
كل ما كتب سابقا، لا يعني التسليم للأعداء، فما يخططونه ليس قَدَرا ولن يكون. لقد
واجه شعبنا مؤامرات كثيرة لا تعد ولا تحصى، وتمكّن من إفشالها، واستعرضنا في
المقالة السابقة، المحطات الرئيسية في نضالات شعبنا لأكثر من مئة عام.
الوضع الفلسطيني يعيش مرحلة من أخطر ما واجهته ثوراتنا التاريخية
وصولا إلى الثورة الحالية، المطلوب: ترتيب البيت الفلسطيني أولا، وإزالة أسباب
الانقسام الفلسطيني المدمّر، وإلغاء اتفاقيات أوسلو التي سبق وأن ألغاها شارون،
وتم سجن الرئيس الراحل ياسر عرفات 3 سنوات في المقاطعة حتى وفاته. المطلوب العودة
إلى صيغة الجبهة الوطنية الفلسطينية العريضة، التي تضم كافة ألوان الطيف السياسي
الفلسطيني.
المطلوب تنفيذ قرار المجلس المركزي في أحد اجتماعاته السابقة بإلغاء
التنسيق الأمني مع العدو الصهيوني. المطلوب عقد مجلس وطني فلسطيني توحيدي جديد
بمشاركة الجميع، وإجراء مراجعة شاملة لكل أحداث المرحلة السابقة، وإلغاء كافة
العقوبات على غزة، والوصول إلى قواسم نضالية مشتركة، وبرنامج نضالي جديد على أساس
الثوابت الفلسطينية، برنامج يعيد الاعتبار للكفاح الشعبي والمسلح منه تحديدا.
المطلوب الطلاق مع نهج المفاوضات نهائيا، وعدم المراهنة على تغيير المواقف
الأمريكية، التي لن تخرج مطلقا من دائرة التحالف الاستراتيجي الوثيق والتلاحم
العضوي مع دولة الكيان الصهيوني.
المطلوب التلاحم بين الخاص الوطني الفلسطيني والبعد القومي العربي مع
جماهير أمتنا، والقوى المساندة لقضيتنا على الصعيد العالمي. المطلوب إعادة
الاعتبار لمنظمة التحرير الفلسطينية وإصلاح مؤسساتها.
وبالعودة
إلى عنوان المقالة، يبدو الشعار صعب التحقيق إن لم نوفّر له كافة استحقاقاته وشروط
إنجاحه.
عن صحيفة القدس العربي