قبل يومين، طلع علينا إشعان ثارور، المعلّق اليوميّ على الأحداث في
صحيفة «واشنطن بوست»، بمقال حمل عنوان: «هل أن ربيعا عربيا جديدا قادم؟». في إثارة
السؤال، أشار ثارور بالطبع إلى الهبّتين الجاريتين في السودان والجزائر، ثم أضاف،
متوخّيا الحذر، أن اضطرابات البلدين تجري في سياقين مختلفين (وكأنّ السياقات
العينيّة لبلدان «الربيع العربي» الأول لم تكن هي أيضا مختلفة)، ليخلص إلى أن شروط
هبّة أكبر لا تزال قائمة في عموم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، «بل قد تكون أسوأ».
منذ
بداية «الربيع العربي» قبل ثماني سنوات وكاتب هذه الأسطر يؤكّد بلا كلل أن
الانتفاضة الكبرى التي خضّت المنطقة العربية في عام 2011 لم تكن سوى المحطة الأولى
في سيرورة ثورية طويلة الأمد سوف تتواصل لسنين عديدة، بل عقود، وتشهد مراحل
متعاقبة من المدّ الثوري والجزر المضاد للثورة، شأنها في ذلك شأن كافة السيرورات
الثورية الكبرى التي شهدها التاريخ. وما كان هذا التقدير محاولة في التنبّؤ، بل
استنتاجا علميا استند إلى تحليل للجذور العميقة للانفجار الإقليمي، وهي جذور راسخة
في نظام سياسي واجتماعي معيق للتنمية بحيث باتت المنطقة تشهد ازديادا مطّردا في
البطالة السافرة والمقنّعة.
والحقيقة
أن النظام العربيّ بات عفِنا حتى النخاع وقد فقد أية مصداقية في نظر الغالبية
الساحقة من سكّان المنطقة فيما يخصّ تقديم حلول حقيقية وناجعة للخروج من المأزق
الاقتصادي والاجتماعي، غير الحلول الوهمية الاستعراضية والمصحوبة بحُزَم من
التدابير القاسية التي تثقل كاهل الشعب، على طريقة ما يقدّمه حكم عبد الفتّاح
السيسي في مصر أو محمّد بن سلمان في المملكة السعودية. فما بقي من حجّة لدى زبانية
هذا النظام الإقليمي البغيض سوى تهديد الشعوب بأوخم العواقب لو تجرّأت على السعي
وراء «إسقاط النظام». وتجدر الإشارة هنا إلى أن تعبير «زبانية» ذو معنيين حسب
القاموس: فهم «حفَظة الأمن في البلاد»، وكذلك «ملائكة العذاب الغلاظ الشِّداد
الموكَّلون بدفع أهل النار إليها» (أهي صدفة، يا تُرى، أن يجتمع هذان المعنيان في
تعبير واحد باللغة العربيّة؟).
وضع
انفجار عام 2011 منطقتنا أمام مفترق طرق: إمّا تشهد تغيّرا بنيويا اجتماعيا
وسياسيا عميقا في طبيعة أحكامها، يضعها على سكّة تنمية مستدامة قادرة على استيعاب
الشبيبة التي لا تني تتدفّق على أسواق العمل بأعداد غفيرة، أو تغرق في دوّامة من
العنف بكافة أشكاله تنذر بسقوط المنطقة
وقد
باتت سوريا المثال المفضّل لدى زبانية الحكم في المنطقة، يحيلون إليها دائما كمصير
محتوم لكل محاولة تغيير ثوري، انسجاما مع شعار زبانية نظام آل الأسد الشهير:
«الأسد أو نحرق البلد!». وهي حالة نادرة رأينا فيها أحد أنظمة المنطقة ينقل شعارا
من شعاراته إلى حيّز التنفيذ: فقد أحرقوا البلد حقّا ودمّروها وذبحوا أهلها
وشرّدوهم. وهذا ما تهدّد شعبَ الجزائر به ومنذ منتصف الشهر المنصرم الطغمةُ
العسكرية والمدنية التي تحكم البلاد.
فقد
بدأ الرجل الذي يرى فيه المراقبون الحاكم الفعلي بالاشتراك مع «المستشار» سعيد
بوتفليقة، شقيق الرئيس الاسمي عبد العزيز، ألا وهو رئيس أركان الجيش «الشعبي»،
أحمد قايد صالح. فاتّهم الذين يعترضون على منح الرئيس الاسمي عهدة خامسة بأنهم
يهدّدون «أمن بلادهم واستقرار وطنهم». وتلاه وزير الداخلية، نور الدين بدوي،
موجّها التهمة ذاتها في تهديد «أمن واستقرار» البلاد لمن أسماهم «أعداء الداخل
والخارج». وعقبهما رئيس الوزراء أحمد أويحيى، في نهاية الشهر المنصرم وعلى خلفية
تصاعد الاستنكار الشعبي للتمديد المزمع، فأشار بصورة مكشوفة إلى حالتين أراد منهما
بثّ الهلع في عقول الجزائريين والجزائريات.
ضد
الدعوات إلى الإضراب العام، أشار أويحيى إلى أن إضرابا في عام 1991 تلاه عقد من
الحرب الأهلية بقي في أذهان الشعب محنة هائلة لا يبغي أحد تكرارها. وكان هذا الأمر
قد لعب دورا في الحؤول دون التحاق الجزائر بانتفاضة «الربيع العربي» في عام 2011،
علاوة على استخدام الحكم للريع النفطي في سعيه وراء شراء سكون الجماهير. ثم أضاف
أويحيى، مشيرا إلى مبادرة بعض المتظاهرين إلى تقديم ورود لرجال الشرطة: «في سوريا
أيضا بدأت الأمور بالورود»…
إن
زبانية الحكم هؤلاء يتصرّفون وكأنّهم لا يدركون أن تشبّثهم بالسلطة هو الذي يتسبّب
بتدهور الأوضاع نحو العنف: عنف السلطة أولا، يليه بعد حين عنف مضاد من قِبَل الذين
ما عادوا يتحمّلون أن ترتكب السلطة مجزرة تلو مجزرة بالمتظاهرين السلميين. والحال
أن المتظاهرين في كل بلد من بلدان المنطقة أرادوا تظاهراتهم «سلميّة، سلميّة»، كما
يهتفون في الجزائر على غرار من سبقهم على درب الانتفاضة في مصر وسوريا وغيرهما.
وحقيقة الأمر أن وراء تهديد الزبانية بمصير يدّعون أنهم يخشونه، يكمن التهديد
الصريح الذي أفصح عنه زبانية آل الأسد: إنّهم على أتمّ الاستعداد لحرق البلد بدل
ترك السلطة.
وقد
وصلت قناعة زبانية المنطقة بأن هذا التهديد كفيل بردع الشعوب عن المطالبة بتغيير
الحكّام إلى حدّ أن الرئيس المصري الذي واجه مع زملائه العسكريين قبل ثمانية أعوام
انتفاضة شعبية عظمى بدأت إرهاصاتها بحملة رفض التمديد لحسني مبارك، بات يسعى بدوره
وراء ضمان التمديد لرئاسته لخمس عشرة سنة إضافية! والحقيقة الناصعة أن بقاءهم في
السلطة هو الذي يزيد أسوأ العواقب احتمالا، وليست مطالبة الشعب برحيلهم.
عن صحيفة القدس العربي