في غمرة إحكام النظام القائم سيطرته الكاملة على مفاصل الحياة السياسية في البلاد، ويأس الجزائريين من إمكانية تحقيق التغيير السلمي عن طريق الانتخابات، بسبب إصرار النظام على منح الاحتكار لأحزابه التقليدية ورجاله ومنع التداول على الحكم في 15 موعدا انتخابيا كاملا نُظّم منذ 16 نوفمبر 1995 إلى الآن.. في هذه الأجواء القاتمة التي ملأها اليأس وتغوُّلُ السلطة في التسيير الأمني للسياسة والاقتصاد والإعلام والمجتمع ككل.. برزت مظاهرات 22 فبراير لتعيد الحياة لملايين الجزائريين اليائسين وتجعلهم يؤمنون لأول مرة، بإمكانية حدوث تغيير عميق يضع حدا لهيمنة النظام القائم على الحكم منذ 57 سنة كاملة، ويُفضي إلى تجسيد الديمقراطية الحقيقية والتداول على الحكم.
هم شبانٌ وشابات في مقتبل العمر، أغلبيتهم الساحقة وُلدوا في التسعينيات، وحينما نضجوا ورأوا ما تعانيه البلاد من تسلّطٍ وجمود ورداءة وجهوية و”حقرة” وفساد وتسيير سفيهٍ للمال العامّ أفضى إلى حرمانهم من حقهم في العيش الكريم، ودفعت الآلافَ منهم إلى المخاطرة بأنفسهم في قوارب الموت بحثا عن حياة أفضل في أوربا.. انتفضوا كرجل واحد منذ 22 فبراير الماضي إلى الآن، وأعلنوها بوضوح تامّ: رفض العهدة الرئاسية الخامسة التي تعني استمرار الوضع القائم، ورحيل كل المسؤولين الذين تسبّبوا في هذه المأساة التي جعلت الشعب يعيش فقيرا في بلد غني بحجم قارّة، وكان بالإمكان أن يصبح في مستوى اسبانيا وكوريا الجنوبية وتركيا وماليزيا، أو أفضل، لو حظي بقيادةٍ رشيدة، لا أن تنتصر عليه دولٌ صغيرة كرواندا من ناحية معدّلات التنمية العالية!
اليوم بات واضحا أن ملايين المتظاهرين لم يعودوا يكتفون برفض العهدة الخامسة، بل يطالبون أيضاً بتغيير حقيقي وجذري في الحكم يؤسِّس لجزائر جديدة غير تلك الجزائر البائسة التي عرفوها منذ التسعينيات؛ جزائر ديمقراطية تضع حدا لـ57 سنة كاملة من الحكم الشمولي الاحتكاري وتسود فيها الحريات ويمكن لشعبها أن يختار حكامَه بكل حرية ومسؤولية دون أن تُصادَر إرادتُه وتُزوَّر أصواتُه وتُمنح ظلماً لأحزاب الموالاة المنبوذة شعبيا.. جزائر تحترم كفاءاتِها البشرية وتستثمر طاقاتِها الشبابية الهائلة في تحقيق تنميتها عوض دفعهم إلى “الحرقة”.. جزائر تضع حدا للفساد ونهب المال العامّ والظلم و”الحقرة” والجهوية المقيتة واستغلال نفوذ المناصب والوساطات للاستفادة غير المشروعة من الريوع والمكاسب، وتفتح المجال للجميع ليفجّر مواهبه وطاقاته، وتكون فيها الحظوة للعلم والكفاءة والاقتدار، وليس للولاء والزبائنية والتزلّف المبتذَل…
جيلُ التسعينيات، قرّر أن يأخذ زمامه بيده ويتجاوز الأجيال التي سبقته ويقودها في مظاهرات مليونية في 48 ولاية ويعبّر عن مطالبه وعما يريده بوضوح، ولن يثنيه شيءٌ عن تحقيقها.. قد يستغرق الأمر بعض الوقت في ظل المقاومة “المستميتة” التي يبديها المستفيدون من بقاء الأوضاع على حالها، من متزلفين وزبانية ومتسلقين للمناصب بلا أهلية ولا كفاءة، ومسؤولين فاسدين ومتعجرفين يريدون الالتفاف على هذا الحراك بأيّ وسيلة وإفشاله، لكن التظاهرات الشعبية التي يشكّل جيلُ التسعينيات رأس حربتها ستجرفهم في النهاية، ولن يكون بإمكانهم الصمود أمام رغبة الملايين في التغيير وبناء جزائر جديدة.
عن صحيفة الشروق الجزائرية