غالبا ما يتعرض «فيسبوك» لانتقادات لعدم بذله جهودا كافية لضبط منصته وتطهيرها من خطابات الكراهية، بينما في واقع الأمر كان العكس تماما هو الصحيح، ذلك أن الشركة التي يترأسها مارك زوكربيرغ، اعتمدت «معايير اجتماعية» مبهمة بعض الشيء كأساس لقراراتها المتعلقة بحذف مستخدمين أو منشورات. ولا يبدو أن الشركة تشعر بأنها مجبرة لشرح كيفية تطبيقها لمثل هذه المعايير. والآن، ربما تجبرها محكمة بولندية على ذلك.
الأسبوع
الماضي، حظر «فيسبوك» أليكس جونز، وميلو يانوبولوس، ولويس فرخان، ولورا لومر،
وآخرين. وأعلنت الشركة أن: «عملية تقييم المنتهكين المحتملين مطولة، وهي ما دفعتنا
لهذا القرار». ويعني ذلك ببساطة أن الشخصيات البارزة المنتمية للتيار اليميني التي تتابعها جماهير ضخمة عبر «فيسبوك»، لم تحصل على تفسير وافٍ لقرار حظرها.
وربما
يتعين على من تعرضوا للحظر عبر «فيسبوك» و«إنستغرام» الأسبوع الماضي، إلقاء نظرة
على بولندا؛ حيث تقاضي منظمة محلية غير حكومية «فيسبوك» لحذفه صفحتها. كانت
المنظمة غير الربحية البولندية، التي تحمل اسم «الجمعية المدنية لمبادرة سياسات
المخدرات» والمعروفة اختصارا بالأحرف الأولى من اسمها بالبولندية «إس آي إن»، قد
تقدمت بدعوى قضائية ضد الذراع الأوروبية لـ«فيسبوك» أمام محكمة ضاحية وارسو، هذا
الأسبوع. وداخل أوروبا على الأقل، ربما تفيد هذه القضية في إقرار إجراءات أكثر
شفافية عند حظر محتوى وصانعه من شبكات التواصل الاجتماعي.
جدير
بالذكر أن هذه المنظمة البولندية متخصصة في «تقليص الأذى»، وهو توجه يرمي إلى
المعاونة في إصلاح المشكلات الاجتماعية المتعلقة بإدمان المخدرات.
من
جهتها، قالت: «إس آي إن» إن «فيسبوك» أغلق صفحتها العام الماضي دون شرح ماهية
القواعد التي اخترقتها المنظمة. كانت «إس آي إن» قد لجأت إلى إجراء الاستئناف ضد
قرار الحظر الذي يتيحه «فيسبوك»؛ لكن ظل الحظر قائما، ومن دون تفسير وافٍ من
جديد، تماما مثلما الحال مع الشخصيات الأمريكية المنتمية للتيار اليميني التي
تعرضت للحظر من جانب الموقع.
جدير
بالذكر أن بولندا بلد تديره حكومة قومية يمينية، ولطالما تذكر «حزب العدالة
والقانون» البولندي ممارسات الحظر التي تنفذها شبكات التواصل الاجتماعي التي يوجد
مقرها بالولايات المتحدة. إضافة لذلك، يرى أعضاء الحزب أن ثمة تحيزا ليبراليا في
سياسات شبكات التواصل الاجتماعي. عام 2017، وضعت وزارة الشؤون الرقمية في بولندا مسودة
قانون تجعل شبكات التواصل الاجتماعي عرضة للمساءلة القانونية، حال «حذف محتوى»؛
لكن القانون لم يصل إلى البرلمان قط، وتعطلت مسيرته بسبب إعادة تنظيم الوزارة.
ومع
ذلك، يبدو توجه «بانوبتيكون» متميزا عن الانتقادات الصادرة من التيار اليميني،
فالمنظمة تحاول تأكيد الطبيعة غير الحزبية لقضية «الرقابة الخاصة» عبر دعم
قضية المنظمة غير الربحية، المعنية بمشكلات إدمان المخدرات.
من
ناحيتها، قالت دوروتا غلوواكا، محامية «بانوبتيكون»، إنه رغم كون شبكات التواصل
الاجتماعي حرة من حيث المبدأ في طرد الأفراد والمؤسسات من داخلها، تبعا لشروط
الخدمة الخاصة بها، فإن «فيسبوك»، بالنظر إلى هيمنته العالمية والأعداد الضخمة
لمستخدميه، لا يتمتع بحرية تصرف كاملة في هذا الصدد. وأضافت غلوواكا أنه يتعين على
«فيسبوك» «مراعاة معايير حقوق الإنسان»، وينبغي تقليص حريته في حجب الدخول إلى منصته
الخاصة؛ لأن المستخدمين لا يتوفر أمامهم سوى القليل للغاية من البدائل الممكنة.
إلا
أن هذه الحجة تتجاهل قضية لطالما كانت محل جدال بين «فيسبوك» ومنتقديه، ما إذا
كانت الشركة منصة للتعبير الحر من جانب المستخدمين، أم جهة نشر لها سياستها
التحريرية الخاصة بها. في العلن، يقول «فيسبوك» إنه منصة تقنية، الأمر الذي من
المفترض أن يعفيه من المسؤولية عما يبدو على صفحاته (ويفسر لماذا لا يدفع الموقع
مقابل المحتوى المنشور عبر صفحاته)، إلا أنه في إطار قضية نظرتها محكمة أمريكية
العام الماضي، أشار محامو «فيسبوك» إلى أنه جهة نشر، وتنبغي حماية قراراته لهذا
السبب بخصوص ما يجري نشره.
من
جانبي، أؤيد التعامل مع «فيسبوك» وشبكات التواصل الاجتماعي الأخرى المشابهة
باعتبارها جهات نشر، وتحميلها مسؤولية المحتوى، وإجبارها على دفع أموال للمنظمات
الإعلامية لطرحها مواد للنقاش عبر منصاتها.
ومع
هذا، تبقى هناك مميزات وراء التوجه الذي تنتهجه «بانوبتيكون»، القائم على التعامل
مع شبكات التواصل الاجتماعي الضخمة باعتبارها مرافق عامة. حال إقرار هذه الفكرة
أولا داخل بولندا، ثم على مستوى الاتحاد الأوروبي، فإن هذا سيجبر هذه المنصات على
ترك جميع صور الحديث القانونية دونما تدخل، والتوقف عن حذف منشورات وصور لمجرد
أنها لا تروق للقائمين على الموقع، أو لأن حكومة ما تعترض على المحتوى، أو لأن
مجموعة مصالح مارست ضغوطا على شبكة التواصل الاجتماعي عبر حملة.
من
ناحيتهما، ترغب كل من «إس آي إن» و«بانوبتيكون» في أن تصدر شبكات التواصل
الاجتماعي بيانات وافية، تشرح سبب حذف منشور أو حساب بعينه، ومن يتحمل مسؤولية
القرار. والملاحظ أن هذه المطالب تتوافق في معظمها مع ما يطلق عليه «مبادئ سانتا
كلارا» التي صاغتها مجموعة من المعنيين بالأخلاق وخبراء فنيين، بدعم من الاتحاد
الأمريكي للحريات المدنية و «إلكترونيك فرونتير فاونديشن».
ويبدو
أن المحاولات المتأخرة لتنظيم المنصات الاجتماعية الكبرى تحولت إلى قضية كبرى
مثيرة للجدل على الأصعدة الوطنية؛ خصوصا في الدول الأوروبية، ويجري طرح مطالب
شديدة التعارض على هذا الصعيد.
على سبيل المثال، من الصعب على هذه المنصات الالتزام بمطالب كبح جماح خطابات الكراهية والتلاعب السياسي والترويج للعنف، مع العمل في الوقت ذاته على العمل كمنصات لحرية التعبير، يمثل الحظر في إطارها إجراء نادرا يشكل الملاذ الأخير. ومع ذلك، فإنه من ناحية يبقى من الجيد وجود منافسة تنظيمية، وجميع هذه الدعاوى القضائية المختلفة التي تهاجم منصات التواصل الاجتماعي من كل زاوية ممكنة.
من
قلب هذه الفوضى، ينبغي أن تخرج تعريفات واضحة لمهام منصات التواصل الاجتماعي،
وسلطاتها وحقوقها والتزاماتها، وينبغي لمن يرون أن قرارات الحظر التي صدرت في
الفترة الأخيرة بحق شخصيات يمينية، غير منصفة، متابعة القضية المطروحة أمام القضاء
البولندي، وهي قضية من المفترض أن تفصل فيها المحاكم الأمريكية أيضا.
عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية