بين وظيفة نشر المعرفة والتنشئة الدينية والقيَمية من جهة، وتداول سياسات الدولة بالنّقد، والدعاية الحزبية خلال الانتخابات من جهة أخرى، دار جدل كبير في المنطقة العربية حول حدود الدين والسياسة في الخطاب المسجدي. ورغم أن إقامة الدين أهم من إقامة الدولة في عرف كثير من الفقهاء، إلا أنه، تاريخيا، لم يقف الخطاب الديني موقف المتفرج على عدم وعي الناس بحقوقهم الدينية أو السياسية، بل أدلى بدلوه كمؤسسة يهمها أمر الفرد والجماعة. وتجلّى، حديثا، دور المساجد في إحباط محاولة الانقلاب الأخير، تموز (يوليو) 2016، في تركيا. فضلا عن أن الديمقراطية والفضاء العام مُصطبغان بالدين حتما في بلدان إفريقية كثيرة وجب من خلاله إعادة التفكير في معاني العلمنة في استجابة لدواعي الخصوصية التاريخية بين الدين والسياسة. وهو ما تجلى أيضا في الانتخابات الفرنسية 2007، حين صرّح الرئيس المترشح ساركوزي بأن "علينا استرجاع ناخبينا الشّعبيّين، ولكن أيضا الضّائعين من قِديسي وكُهّان الكنائس الحورانية" (صحيفة "ماريان" العدد 570).
وفي ظل تقهقر المفاهيم والأدوار صار يُنظر إلى المساجد في تونس على أنها شبكة تحكُّم لا غير. فرغم عدم رصد أية مخالفة قانونية في الانتخابات التشريعية والرئاسية لسنة 2014، وتورط أي إمام خطيب في الدعاية الحزبية من قبل "الهيئة المستقلة للانتخابات" إلى حد الآن، إلا أن التركيز على وجوب تحييد المساجد متواصل لتحسيس الأئمة بـ"الضوابط الشرعية والقانونية للخطاب أثناء الحملة الانتخابية". فالحكومة الحالية معنية بالانتخابات هذه المرة ، مما يجعل "هيئة الانتخابات" تركّز أكثر من ذي قبل على حياد الإدارة. وصرّح رئيسها: "الإمام من قادة الرأي وصانع الناخب وقدوة للتونسيين". وأقرّت وزارة الشؤون الدينية شرعية الاهتمام بالشأن العام والسياسة دون الدعاية الحزبية التي ستجعلها تُعفي من يتورّط فيها من الائمة، إيحاء وتلميحا فضلا عن التصريح.
ومن هنا تم تعريف الحياد بانه "التّعامل بنزاهة مع كافة المترشحين وعدم الانحياز لأية قائمة مترشحة أو حزب وعدم تعطيل الحملة الانتخابية وتجنب ما من شأنه أن يؤثر على إرادة الناخبين".
الشَّأن الديني ومعارك افتكاك المجالات
تاريخيا، المسجد واسطة العقد العمراني والأخلاقي في القرى والحواضر والدّساكر. لعب مع الطرق الصوفية دورا في خفض توتر درجة السياسي ببلدان عربية وإفريقية، وبطريقة أو بأخرى، مثلت الوجه الثاني للدولة بما أن لهم منافع في عمل النظام الّسياسي بتلك الشّاكلة وصاروا أيضا يمتلكون سلطة مماثلة لتلك التي يمتلكها رجال الدولة، والسينغال مثال على ذلك.
بيد أن وضعا آخر تشكل في مناطق العلمانية الصلبة مثل تونس، كانت فيه الدولة مُستخدمة للدّين ولم تخدمه. ولم يكن الشأن الديني إلا من خواصّها لمدة 60 عاما. وكان لها فيه الأمر، من قبل ومن بعد، تصرفت فيه بكل أجهزتها المادية والأيديولوجية لم تعتبر فيها الأئمة جزءا من المثقفين، بل حرصت على تهميشهم ولم تكن معنية بتكوينهم، ولم تنظر إليهم حرّاس قيم وعقيدة بل حرس النظام والاستقرار. وتركت الخطبة على غارب التكرار الممجوج. فظلّوا دهرا ـ عدا استثناءات ـ مثار تندّر وعنوان سطحية الخطاب والكليشيهات الدينية الجُمعية.
ازداد الأمر سوءا مع نظام ابن علي الذي رسخ الرداءة في ملابسات تاريخية شاذة، وسن قانون 1988 للمساجد الذي لم يكن سوى زجر ووعيد. فكانت الحصيلة عدم وجود أئمة قادرين على إقناع الشباب الوافد والتاثير فيه، فانتشر الفكر السلفي، وكان خراب المساجد مزدوجا: ماديا بعدم العناية بها ترميما وصيانة، بل تفرجت الدولة على تشويه عمرانها، فانتشرت صوامع لا علاقة لها بالصّومعة الحفصية المربّعة، وفي خطة جهنمية سقّف بن علي فناء المساجد التي فاض فيها المصلون عن المسجد، ودمر معمار المسجد بفسخ معالم هندسته مما تسبب في ضياع الطابع العمراني، في كيْد لهدم الإنسان والبنيان، ومعنويا بتهميش الإمام مما يعني، آليا، تهميش المسجد بضعف الأجور، والمنع من أداء رسالته وحراسة ضعفه الفكري وتخلفه حتى لا يؤدي رسالته "في بيوت أَذِن الله ان تُرفع".
تقابل هذه الصورة البائسة الواقعية، صورة تاريخية في وجدان الأئمة وصفها المستشرق "غوستاف لوبون" في كتابه "حضارة العرب" بقوله: "العرب يتخذون من المسجد محلاّ للاجتماع والعبادة والتعليم والمسكن عند الاقتضاء وملاجئ للغرباء ومراجع للمرضى، لا للعبادة فقط كبِيَع النّصارى. ومن توابع المساجد على العموم حمامات وفنادق ومشافِ ومدارس، وهكذا يتجلى اختلاط الحياة الدينية مع الحياة المدنية عند العرب".
والنص شاهد على تمثيل المسجد لرسالة الاسلام بشموله. ومن ثمة يعتبر الأئمة أنهم يرتكزون على أساس متين، مفاده أن السياسة ليست إلاّ الشان العام متسائلين: أليس من السياسة أن يقول الله: "إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل". ثم أليس اقتصادا قوله تعالى: "اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين" و"ويل للمطففين" أو "يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل". أوليس اجتماعا حين نظم الإسلام العلاقة الأسرية وصالا وانفصالا" بقوله "فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان". فإذا كان الإسلام شاملا لجميع هذه المجالات فإن رسالة المسجد هي رسالة الإسلام، ودور الأئمة يتجاوز جدرانه الأربعة وينتهي بهم المطاف إلى القول بأن منع المسجد من أداء وظيفته هو عين الظلم "ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها".
حدود الديني والسياسي
للأئمّة وعي مُضاغف بلغة هيغل، فهم يدركون أن تونس ليست تيوقراطية ولا علمانية بل مدنية، وأن الفصل 6 من الدستور ينصّ على أن "الدّولة ضامنة لحياد المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبي"، وأن الشعب لم يقم بثورة من أجل تغيير دينه، بدليل أن الدستور الجديد حوى 25 إشارة إلى الإسلام، توطئة ومتنا، ونص على احترام المقدسات. وحث الناخبين جزء من الاهتمام بأمر المسلمين، ولكن الحياد لا يعني الوقوف على مسافة واحدة من الأحزاب السياسية إذا ما تعلق برنامج بعضها بمعاداة الدين والهوية. فالقاعدة الأصولية تقول: "لا يجب تأخير البيان عن وقت الحاجة"، و"الساكت عن الحق شيطان أخرس" في وقت حاسم ومنعطف شوري ديمقراطي وسياسي. فلا يجب أن يكتفي الإمام بحث الناخبين على الانتخاب، بل يحملهم مسؤولية اختيارهم، ويقف فاصلا بين الصدق والكذب والفضيلة والرذيلة والإصلاح والإفساد والحق والباطل، ومن حقه تناول سياسات الدولة بالنقد، وينبه للانحرافات الخطرة التي صارت تهدد المجتمع. ويتحدث عن ضرورة مقاومة الفساد المستشتري والدعوة إلى كلمة سواء. وأن يركز على الشروط الشرعية والدستورية للمترشح ومدى استعداده لاحترام مقدسات الشعب وما هو معلوم من الدين بالضرورة. فلا يمكن للمترشح غير الصالح أن يكون يوما ما مصلحا، لأن غاية السياسة الإصلاح وليس الفساد. فكما عرّفها العلماء هي" القيام على الأمر بما يصلحه".
حسم عبد الله ابن عقيل مرجعيّتها ومقصدها بقوله: "السياسة الشرعيّة هي الحزم ولا يخلو من القول به إمام". فقال له شافعي: "لا سياسة إلا ما وافق الشرع". فردّ عليه: "السياسة ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد وإن لم يضعه الرّسول ولا نزل به وحي". ويجب أن لا يضيع الوطن بضياع الأمانة، إذ قال النبي (ص): "إذا ضيعت الأمانة فاننتظر الساعة". قال: "وما إضاعتها؟ قال إذا وُسد الأمر الى غير أهله". وحينئذ تدخل البلاد في السنوات الخدّاعات: "يؤتمن فيها الخائن ويخوّن فيه الأمين، ويُكذّب فيها الصّادق ويُصدَّق فيها الكاذب، ويتكلم فيها الرُّويبضة. قالوا وما الرويبضة؟ قال الرجل التافه يكلّم في أمور العامة". والإمام مؤتمن ومسؤول، والدين النصيحة، والنصيحة أن يبيّن للناس قيمة الانتخاب حقا وواجبا وصوتا وأمانة وشهادة، إما أن تكون حقا أو زورا. ويوضح لهم معايير الانتخاب كعدم اعتمادهم المعيار الجهوي أو القبلي أو الاختيار حسب القرابة الدموية أو التعصب الأعمى لشخص أو إعادة انتخاب من ثبت فساده. فالانتخابات تصطفي ممثلين عن المجتمع الأصل أن يصح فيهم قوله تعالى: "إن خير من استأجرت القوي الأمين".
و"من حق المجتمع البحث عن أقوياء في الميدان أمناء في المهام، ولا انتخاب إلا للأصلح فقط، فإن لم نجد الأصلح ننتخب الصّالح، وإن لم نجد الصالح ننتخب الأقل فسادا" حسب قول الدكتور عمر بن عمر بجامعة الزيتونة. حتى لا يبقى الناس دون حاكم. وكل اجتهاد تقديري من العلماء في تفضيل اتجاه على آخر يكون بالتقدير السياسي وليس بالتقدير الديني. فشمولية الإسلام لا تعني التفاصيل أو تحول الدين إلى إيديولوجيا وطرفا في الصراع.
حقيقة احتكار السياسة
ليس يسيرا تجاوز ما خلفته الظاهرة السلفية الجهادية من صور سيئة عن المساجد. تم بعد استعادتها، صياغة "ميثاق شرف الخطيب" تناول مهام الإمام في 13 بندا، نص الرابع منها على أحقيته في تناول قضايا الشان العام. فهو "صاحب رسالة ورائد إصلاح واستقرار اجتماعي، من حقه التبصير بالقضايا العامة وسبل معالجتها من الناحية الشرعية على نحور يراعي تطورات الواقع".
وترى الوزارة أن الإمام حر مطلق اليد في التدريس في المسجد متى شاء ولا تتدخل في موضوع الخطبة. ولكن الحقيقة حسب الأئمة الخطباء والجمعيات التي تدور في فلكهم، أن الدولة غير معنية بإصلاح جوهري للشأن الديني بل تحرص على تخلّفه بتعطيل "المجلس الإسلامي الأعلى" وتواصل غلق المعهد العالي لتخريج الأئمة الخطباء بالقيروان"، دون توضيح، وعدم تغطية النقص في الإطارات المسجدية.
وفي الضفة الأخرى، لا يعتبرهم الإعلام من النخبة أصلا، بل متطفلين على الثقافة والشان العام، وجزءا من الميراث التقليدي الذي تتواصل به المناسبات الدينية وطقوسها الموسمية. والحقيقة أن مربط الفرس في علاقة المسجد بالسياسة والتوجس منه أمران: أولهما، أن خطابه هو النقيض الموضوعي الوحيد لكل الآلة الإعلامية التي احترفت التغريب والتفسيخ وترذيل كل ما هو قيمي وصارت تهديدا فعليا لأساس دولة وكيان مجتمع محافظ بالأساس. وثانيهما وجود الإسلاميين في الساحة السياسية التي كان المسجد تأثيره في التكوين الأول في مسارهم، بل اعتلى كثير منهم المنابر بعد الثورة، وسيحلب خطابهم حتما في إناء "حركة النهضة" لأنهم يشتركون معها في المرجعية أولا، ولأن قوة الخطابة التي يملكها الإمام أقوى بكثير مما تملكه وسائل الإعلام مجتمعة. فالاصغاء إليها لا يكون بالاهتمام والخشوع الذي يحصل في المساجد، التي يفوق عددها عدد مركز الاقتراع (4700 مسجد مقابل 4500 مركز اقتراع). وعدد روادها يوم الجمعة يساوي 1.200 مليون، ما يساوي تقريبا حصيلة الأصوات التي حصل عليها الرئيس الباجي في انتخابات 2014. في وقت لم يثر فيه الإعلام حدود السياسي والنقابي في خطاب النقابات، كما حددت حدود السياسي والدّيني في خطاب المساجد. وهو احتكار صريح للسّياسة وكيل بمكيالين لا يستجيب لشروط المواطنة.
وحسب "جمعية الأئمة" و"التنسيقية الوطنية للدفاع عن القرآن والدستور"، فقد سنّت الهيئة قانونا خاصا بهم أُجبر فيه 120 إماما على الاستقالة حين الترشح للانتخابات البلدية سنة 2018، وأخيرا سنت قانونا يوقف الإمام الخطيب عن الخطابة أثناء الحملة الانتخابية في استثناء عجيب لم يشمل مترشحا واحدا من القطاعات الاخرى، بل شمل القانون المترشح سواء أكان إماما خطيبا أو قائما بأعمال المسجد أو إمام خمس بتعلّة لقائه 5 مرات مع النّاخب في اليوم .
إجمالا، في مجتمع تتصارع فيه الحقول حول افتكاك المساحات، لازال الحديث عن السياسة وعلاقتها بالدين أمرا مثيرا للجدل في ديمقراطية ناشئة، لم تحسم فيها بعد العلاقة بين الحاكم والمحكوم والدين والدولة. وفي كل مرة يقع الاضطرار إلى رفع اللبس وتجديد تعريف العلاقة بين المسجد والسياسة. ولكن لا ينكر أحد وجوب التفرقة بين الدعوة والدعاية. فكلما نأى الإمام عن الدعاية الحزبية اتسم خطابه بالمصداقية. ولكن الإشكال أن النخب العلمانية جعلت لنفسها الرهانات القريبة في الدولة، أما الإسلاميون فخصصت لهم مهمة حراسة الوطن، تهدئة الأوضاع، وأحيانا... تفسير أحلام الحكومات.
*صحفي تونسي
المناظرات الرئاسية في تونس وحلم العبور نحو الفعل التاريخي
المغرب.. جدل فكري وسياسي حول الحريات الفردية وحقوق المرأة
المرأة التونسية بين مطرقة السياسة وسندان الذكوريّة