لا شك بأننا جميعاً في صِغرنا قد درسنا في المناهج الدراسية للدول العربية التي نعيش فيها قصة الغراب والثعلب. وتروي القصة أنه كان في فم الغراب قطعة جبن، ما فتئ الثعلب يوسوس له ويقنعه حتى خرج الغراب عن صمته وفتح فمه، وما إن تكلَّم حتى سقطت قطعة الجبن التي التقطها الثعلب وهرب بها.. وندم الغراب ولام نفسه أنه لم يلتزم الصمت.
وهي قصة تؤمن بها أنظمتنا العربية وتقدُّسها، وتبذل جهدها لتنقل عدوى هذا الإيمان لشعوبها المضطهدة المقموعة البائسة، ملوِّحةً لهم عبرها وبشكل موارب بخطورة الحديث والإدلاء بالرأي. فالكلام يُفقد صاحبه لقمة العيش التي تركض شعوبنا وراءها ليل نهار، بينما هي تولي هاربة منهم بأقصى سرعة ممكنة. برغم أن إيليا أبو ماضي قال في قصيدته "حياة مشقات":
اُغرِّب خلف الرزق وهو مشرِّقٌ وأقسم لو شرَّقتُ كان يُغرِبُ
ولكنه آنذاك هرب من الجوع من بلاد العرب ليطارد لقمة العيش في بلاد المهجر، إلا أن النتيجة كانت لديه سيان، فلم يستطع القبض عليها والعودة بها إلى بلاده.. حيث ظل الرزق يرفض العودة معه وهو العربي حتى لو قسراً.
حتى أمثالنا الشعبية التي نستشهد بها كثيراً خلال كلامنا تحضنا على الخذلان والرضى بالعبودية، فلماذا لا يمشى الواحد منا "جنب الحيط" ويطلب الستر؟ أليس من يتزوج أمه يقول له " يا عمي"؟ أليست اليد التي لا يستطيع قطعها أو عضها على أقل تقدير "يبوسها" ويظهر لصاحبها الحب حفاظاً على لقمة عيشه وبقائه؟ ألا نشجعه على أن يُسيِّد الكلب إذا لم يستطع مجابهته؟ وأن يُظهر اللين حتى يَسلم من أذى من هم بالأعلى قائلين: "اغزل على الناعم واطلع سالم"؟
ولنعد إلى موعظة ثعلبنا وغرابنا.. مسكينة هذه الشعوب العربية التي تتسربل بثياب الرضى والقناعة، ولا أمل لها في خلعها، فهل يستطيع الكائن الحي خلع جلده وهو الواقع بين مطرقة الجوع وسندان الثعلب المراوغ الكذَّاب الذي لا يفتأ يعِدُه ويمنِّيه ويوهمه أنه يتقدم به ويتطور ببلاده؟
في بلاد الله الضيقة التي تنحصر ما بين محيط وخليج، نتغنى بوحدتها ورحابتها وضيق مساحة التعبير عن الرأي والفكر فيها ونعتز بعروبتنا ونخدع أنفسنا بوحدتنا: "بلاد العرب أوطاني، من الشام لبغدان". في هذه البلاد يُضحى بمئات إن لم يكن آلاف وحتى ملايين من البشر لأنهم خرجوا إلى الشوارع مطالبين بتحسين أوضاعهم المعيشية ومحاسبة الفاسدين.. برغم أن هناك من سيهبُّ قائلاً: "هذه مطالب عادلة، فلماذا العنف معهم وقمعهم بأساليب لا تُصدَّق؟؟".
تكمن القضية أن هؤلاء الشعوب إن خرجوا هذه المرة للمطالبة بتحسين أوضاعهم، وسُمح لهم بذلك، وسُمعت شكواهم وحُلَّت المشكلة التي خرجوا من أجلها، لا ندري ما قد يحدث غداً! فمن اعتاد على إعلاء صوته في قضية صغيرة، سيعليها غداً في قضايا أشد الخطورة.. لذا، لا بُدَّ من القمع، وترسيخ قواعد الانكسار والخذلان والعودة للجري وراء لقمة العيش..
واسمعها مني نصيحة يا أخي: المواطن الصالح هو المواطن الذي لا يتدخل بالسياسة، شعاره: " أنا لست ممن يتدخلون في السياسة"!! وتراه لا يُتعب نفسه بالتفكير بالفساد ولا في محاسبة الفاسدين، ويقنع نفسه بأن ما يعيش فيه من فقر وضنك هو أجر وثواب ونعمة من الله، ألم يكن كثير من صحابة رسول الله فقراء؟؟ فهل هو أفضل منهم؟ فليرضَ بقدره وليفكر في لقمته التي سيخطفها الثعلب المراوغ من فمه في أول فرصة واعتراض.. فالحذر الحذر.
المواطن الصالح في بلاد العرب الآن لا تسول له نفسه قائلة: السياسة لا تنفصل عن حياتي، فما يخصني ويمسني كيف لي أن لا أتدخل فيه؟ ألا أتدخل في تأخير وتأجيل التحويلات الطبية حتى يُهلك المرض ضحيته، وعدم توفير العلاجات اللازمة والأدوية لمرضى الأمراض المزمنة مثلاً؟ ألا أتدخل في مشكلات التعليم التي تمس الطلبة والمعلمين وكافة قطاعات المجتمع؟ ألا أعلي صوتي برفض غلاء الأسعار وتدني الأجور مثلاً؟؟ ألا أطالب بمجانية التعليم وتوفير الوظائف للخريجين؟ ألا أرفض الضرائب المرتفعة التي تنهكنا وتثقل كاهلنا، وفي الوقت ذاته لا نتلقى خدمات توازي ما ندفعه سنوياً للحكومة؟ ألا يحق لنا أن نمشي في شوارع نظيفة جميلة لا تعكر صفوها حفر عميقة ومطبَّات، ونتمتع بِبُنى تحتية مناسبة، فلا تغرق مدننا مع أول غيث في موسم المطر؟
وليفكر كل منا، وليراجع نفسه إن كان يجب عليه أن يتعظ بقصة الغراب والثعلب "ويقول للكلب يا سيدي"، ويحفظ نفسه ورزقه، أم ينزلق في مهاوي الشيطان ويتمرد على ولي نعمته ولا يتعظ بغيره؟
* كاتبة فلسطينية