عرفته شخصيا في شهر آذار (مارس) 1973، حين عاد إلى وطنه ووطني تونس بعد رحلة من رحلات عذابه الطويل، وحين وقع الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة عفوا رئاسيا يلغي الحكم بالإعدام الصادر ضده في 1957. إنه المجاهد التونسي العربي عمنا حسين التريكي رحمة الله عليه.
كانت تربطني في ذلك العهد صداقة طيبة بنجله عمر الموظف بوزارة الإعلام، والذي حرم من والده سنوات حين كان المناضل الكبير حسين التريكي ممثلا لجامعة الدول العربية في الأرجنتين وعموم أمريكا اللاتينية.
من أغرب قصص الكفاح
وقصة العم حسين من أغرب قصص الكفاح من أجل التحرير في تونس وفي فلسطين، وآخر مرة قابلته فيها كانت حين زار الدوحة فأعدت معه تحريك رماد الذاكرة القوية أستزيد من حكمته وتجارب حياته. وإني سعدت جدا بالمبادرة التي يقوم بها نجل أخيه محمد فوزي التريكي لإعادة تصحيح التاريخ ومؤسسة التميمي، حيث نظمت ندوة علمية تكلم خلالها المناضل الكبير حسين التريكي أمام جيل المؤرخين الشبان.
وشيخ المجاهدين العرب ظاهرة حقيقية نادرة في تاريخ الكفاح المعاصر، حيث أنه حوكم بالإعدام في محاكم الاستعمار الفرنسي عام 1947 لنشاطه المسلح من أجل التحرير ضمن فصائل المقاومة التابعة للحزب الدستوري بقيادة الزعيم بورقيبة، وكان مكلفا بمهمة سرية تتمثل في توفير المتفجرات وتصنيع المفرقعات حتى تتمكن المقاومة من القيام بأعمال فدائية ضد غلاة الاستعمار.
وحين اقترب موعد الاستقلال والنصر ابتعد التريكي عن بورقيبة واقترب من منافسه على الزعامة صالح بن يوسف ودخل في حركة عروبية متأثرة بالثورة الناصرية والقومية العربية وانحاز للجناح المشرقي للحركة الدستورية التونسية، وربط الصلة مع المقاومة الجزائرية بل وعين عضوا ضمن الوفد الجزائري المفاوض لفرنسا برئاسة رئيس الجمهورية الجزائرية المؤقتة فرحات عباس.
حوكم بالإعدام في محاكم الاستعمار الفرنسي عام 1947 لنشاطه المسلح من أجل التحرير ضمن فصائل المقاومة التابعة للحزب الدستوري بقيادة الزعيم بورقيبة
دافع عن فلسطين في أمريكا اللاتينية
وفي مصر احتضنته الجامعة العربية وعينه أمينها العام عبد الخالق حسونة مندوب الجامعة في أمريكا اللاتينية وطار إلى (بيونس أيرس)، حيث أنجز أعمالا مشرفة في التعريف بالقضية الفلسطينية ومقاومة الدعاية الصهيونية ونشر عدة كتب وصحف باللغة الإسبانية سرت في القارة الجنوبية لأمريكا مسرى النار في الهشيم وفضحت الاحتلال الإسرائيلي.
وربط التريكي علاقات بالأوساط الدبلوماسية العاملة في الأرجنتين إلى درجة أن المخابرات الإسرائيلية حكمت عليه بالإعدام وحاولت تنفيذ الحكم مرات عديدة في عدة بقاع من أمريكا الجنوبية وفشلت. وعاش حسين التريكي بعد هذا الحكم الثالث بالإعدام.
كان التريكي مؤمنا بأن قضية تحرير تونس من الاستعمار لا يمكن أن تنفصل عن قضية تحرير الجزائر والمغرب وفلسطين، وبأن العرب قوة عظمى إذا توحدوا، وكان هذا هو وجه الخلاف مع بورقيبة الذي كان يدعو إلى انتهاج سياسة خذ وطالب.
هذه بعض مقتطفات من حياة الرجل الذي بدأ حياة الكفاح عندما كان في الخامسة عشرة من عمره، أي عاش 76 عاما من المقاومة، وكان يسمي نفسه إلى يوم وفاته مقاوما ما دامت فلسطين لم تتحرر وتؤسس دولة مستقلة وما دام العرب لم يوحدوا الصفوف ولم يجمعوا كلمتهم.
مات غريبا
لا أخفيكم أنني إلى اليوم لا أزال متعجبا كيف لم تتصل القنوات الفضائية العربية بشيخ المجاهدين ليكون على الأقل شاهدا على العصر، وقد عاش قرنا من الكفاح؟ وكيف لم تتحرك أية حكومة عربية لتكريمه؟ وكيف لم يفكر أي قسم للتاريخ في أية جامعة عربية لاستقدام هذا المنجم الحي من التاريخ؟ بل وكيف أهملت جامعة الدول العربية ممثلها القديم في نصف القارة الأمريكية؟ والأهم من هذا كله كيف لم يسأل بعض ولاة أمورنا في تونس عن وضع حسين التريكي؟ وكيف عاش؟ وهل كان يتقاضى راتبا؟ وهل لديه المال ليتعالج وهو الرجل المتعفف الذي لا يشكو ولا يمد يده لأحد؟
ربط التريكي علاقات بالأوساط الدبلوماسية العاملة في الأرجنتين إلى درجة أن المخابرات الإسرائيلية حكمت عليه بالإعدام وحاولت تنفيذ الحكم مرات عديدة