أمام العين وفي عمق الروح والقلب، تموج ثنائيات بشرية خطيرة مثيرة، تكشف هزال الإنسانية والإنسان أمام وحشية القوة المتجلية في ساسة يتجلببون بالدم والإثم، ويتزيّون بملابس العصر، ويهرفون بمنطق الظلم والعقم.. ثنائيات لا تكُفُّ عن التكاثُف والصراخ في عالم مُراوغٍ مبتذَلٍ ممزَّقٍ أشَل، ومنها ثنائيات صادمة مريعة: "الثلج والدم، البؤس والعنف، الاستغاثة والجبن الأصم، النزوح والتهجير، القتل والتدمير، عُري السياسة والساسة وانهزام الأخلاق والقيم وإنسانية الإنسان أمام الانحطاط والانحلال وهمجية القوة العمياء في الغابة البشرية".
الثلج يطمر المُعدَمين المهجّرين النازحين المقيمين في مخيمات من ورق مُقوَّى وخرق ومُنْتَجات النفايات، والرعب والفقر والبرد يصم ظهور الوافدين الجدد بمئات الألوف إلى مخيمات من مثلها وإلى عدم وانعدام وجودها أصلا.. والدم يسيل من جراح الضحايا، مدنيين وعسكريين، تحصدهم آلة القتل، ويتخثَّر ذلك الدم ويترجرج ويتدحرج هلاكا فوق الثلوج والخيام والطين والأشلاء المتناثرة في العراء..
معظم الضحايا من العرب والمسلمين
ومعظم أولئك الضحايا من العرب والمسلمين المستهدفين بالعدم والإعدام، وعلى رأسهم "فلسطينيون مأساتهم مزمنة، ومستجدون سوريون وعراقيون ويمانيون وليبيون و.. و.."، وكلُّ أولئك الذين يكتوون بنار الحرب ويعيشون الفواجع.. ويرزحون تحت نير استعمار عُنصري صهيوني إمبريالي توسعي قاتل، يتآخى مع استبداد وقصور سياسي ظالم، ومع حكام عاجزين طامحين متورّمين، ومع عملاء وأدوات فاسدين مفسدين.. يمارسون جميعا إجراما وإرهابا وينشرون المقت والموت، وينزّون عدوانا واستكبارا واستهتارا بالحَيوات والحقائق والحقوق والحريات وبكل مقومات الحياة.. ويتربَّعون فوق بشَرٍ يحاصرونهم ويقيدونهم إلى العدم بانتظار الإعدام..
يا إلهي كم يطفئ الاستعباد والتعصب العنصري والقومي والديني أنوار العقول ووهج الأرواح، وكم يقطع من أجنحة أنفس ويمنعها من التحليق في الفضاء الإنساني
الأفعال غير الأقوال
أتابع منذ سنوات وسنوات حوادث وسياسات وتصريحات وقرارات ساسة وهيئات ومؤسسات دولية، وبيانات مؤتمرات، وثمرا مُرا من ثمر اللسان في كلام لمسؤولين يدعون للسلم والأمن، ويعلنون ألا حلول عسكرية للنزاعات والخلافات الداخلية والإقليمية والدولية، بل هناك حلول سياسية فقط ومداخلها الحوار.. وفي الوقت الذي يلوكون فيه هذا الكلام، يؤسسون للحرب ويخوضونها ويحرضون عليها، ويروجون لأسلحة القتل وأدواته، ويتاجرون بالدم والأمن ليربحوا وينتفخوا؟!..
وبينما استمع لصليل ذاك الكلام الأفعواني وأتابعه وأستعيده، يرنَّ في أذنيَّ شَهيقُ المحتَضرين، وأنينُ الجرحى والمعوّقين، وبكاءُ النساء والأطفال والعَجَزة ومن هم أكوامٌ من اللحم والهم والغم في مخيمات النزوح واللجوء، وتعترضني صورٌ منها انتشال جثث تحت أنقاض العمران المدمر فوق الرؤوس، وأقرأ عن أعداد الضحايا من مدنيين وعسكريين وعن مجريات معارك الآمرين، وعن بؤس الناس في وطني العربي من طرابلس الغرب إلى حلب الشام، ومن موصل العراق إلى اليمن "السعيد".. فأكاد أُشَلّ من هم وعجز وغم، ويعاودني شأن اللسان والحديث عنه وفيه، فأُغطي نصف وجهي بكفّ وأمسح نصفه الآخر بأُخرى مسحا لا شأن له بالتنظيف والتلميع.. فأنا وثمر لسان الإنسان على مواعيد وتلاويع، أَروجُ في أمواجه بين الفَرح والتَّرَح، الأمل واليأس،.. فمعظم ما في هذه الحياة مبني على ثمر اللسان أو ناتجٌ عنه.. وثمر اللسان كلام، ويا ما في الكلام من آلام وآمال، وأحلام وأوهام، وأوجاع وأسقام، و.. و.. فالكلمة يمكن أن تحمل الشيء ونقيضه وتصنع ما تصنعه في الإنسان، وما يصنع بها الإنسان ما يصنع بذاته ولذاته وبالآخر الذَّات.
بالكلمة نعبر عن الحب والبغض، وبها نعلن الحرب وندعو للسلم، والكلام ثَمَرُ اللسان وفيه العجب والطَّرَب..
والإنسان لا يكف عن إدمان الكلمة في كل الأحوال، مهما حملت من أحوالٍ وأهوال، ولا عن التحليق بها كطائر ذي جناحين، ولا عن التهويم في فضاءات ترفعه إليها، وسماوات تعرج به فيها، ومسافات يقطعها على بساط ريحها.. فيخرج من برزخ ليدخل في برزخ، ويمتطي الغيم العتيم ليدلُف منه إلى الضوء العميم، ويبقى توق السرمَدةِ وقيدَ المَرمدَة، وفيما بينهما هو عربيد فريد، عنيد ورعديد، وشاهد وشهيد.. يتجدّد كما الفينيق ويتحمَّل كما الفَنيق.. يحدو ويشدو ويرقص ويبكي ويصيح ويستريح.. ولا صريخ له ولا معين، إلا ما يأتيه من رحمة رب العالمين الذي إن شاء حَكَم وإن شاءَ رَحَم.
فيا سبحان الله كم هي ثمار اللسان شَهيّة ورَديَّة، وكم فيها من شَهد وعلقم، ومن مضحكٍ ومبْكٍ، ومحيٍ ومميت.. وكم تحمل من متضادات وتوحي بمتناقضات، فبالكلمة نعبر عن الحب والبغض، وبها نعلن الحرب وندعو للسلم، والكلام ثَمَرُ اللسان وفيه العجب والطَّرَب..
ولعل معنى "طَرِبَ" عند العرب يكشف بعض أسرار اللسان ويقدمه بصورتيه أو ثوبيه أو وجهيه أو قناعيه.. ففي القاموس المحيط: "الطَّرَبُ: الْفَرَحُ وَالْحُزْنُ.. وَقِيلَ: الطَّرَبُ خِفَّةٌ تَعْتَرِي عِنْدَ شِدَّةِ الْفَرَحِ أَوِ الْحُزْنِ وَالْهَمِّ.. ".. قَاْلَ النَّابِغَةُ الْجَعْدِيُّ:
سَأَلَتْنِي أَمَتِي عَنْ جَارَتِي وَإِذَا مَا عَيَّ ذُو اللُّبِّ سَأَلْ
سَأَلَتْنِي عَنْ أُنَاسٍ هَلَكُوا شَرِبَ الدَّهْرُ عَلَيْهِمْ وَأَكَلْ
وَأَرَانِي طَرِبًا فِي إِثْرِهِمْ طَرَبَ الْوَالِهِ أَوْ الْمُخْتَبَلْ."
ففي حدَّي اللسان: "إماتة وإحياء، إفناء وإنقاذ، شدة وفرج، فرح وحزن، بكاء وغناء.. إلخ.. ".. فيا الله.. كم في ثمر اللسان من البيان، "وإن من البيان لسحرا".. وكم فيه مما يحمل الأضداد أو النقائض، وما يفيض بها كما فاض في نقائض جرير والفرزدق والأخطل.. وكم يقعُ من إجرام وبؤس وظلم وحيفٍ، أمضى من حد السيف، بحق الإنسان والأوطان بحَدَّي الّلسان، وحدَّي ساسة وسياسة بلا أخلاق أو كياسة.. ويكون حَال الناسِ بين الحدين حال الطَّير يَرقُصُ مَذْبوحا مِن الألم.
ليبيا.. هل تنجح جهود السفير الأمريكي لاستئناف المفاوضات؟