بقي اسم "كونتا كينتي" ملتصقا في ذاكرة العالم لسنوات طويلة بعد عرض المسلسل التلفزيوني الشهير "الجذور" عام 1977 المأخوذ عن رواية حملت نفس الاسم للكاتب أليكس هالي.
كونتا كان رجلا حرا في غامبيا ويحلم بالحج إلى مكة اختطفته عصابة من البيض تمتهن العمل بالرق عام 1767 وهو صبي ونقلته إلى الولايات المتحدة في رحلة امتدت لعدة أشهر عبر محيط متقلب الأجواء وفي مكان أقل ما يوصف أنه قبر وحاوية قمامة ليباع كرقيق بمبلغ 850 دولارا.
قصته كانت صادمة لملايين المشاهدين في العالم الذين كانوا يتعرفون للمرة الأولى على مأساة إنسانية مغرقة بالبؤس والمعاناة والإهانات استمرت أكثر من 200 عام من العنصرية والعبودية.
لا تزال صرخاته وهو يمسك بالسلاسل بجنون لمنع بيع ابنته "كيزي" تتردد حتى اللحظة مع اشتعال شرارة الاحتجاجات من مدينة مينيابوليس بولاية مينيسوتا في 25 مايو/أيار الماضي، بعد وفاة جورج فلويد الأميركي من أصل أفريقي البالغ 46 عاما والذي قضى اختناقا خلال توقيفه على يد شرطي أبيض.
ولنحو تسع دقائق ضغط الشرطي ديريك شوفين بركبته على عنق فلويد الذي كان يردد "لا أستطيع التنفس"، وبقي الشرطي جاثما على رقبته حتى النفس الأخير له.
قصة كونتا كينتي وجورج فلويد تعيد العالم إلى بدايات نظام العبودية في أميركا الذي بدأ في القرن السادس عشر مع اتساع رقعة العصر الاستعماري، قبل أن يتم حظره عام 1808 وإلغاؤه فعليا عام 1865 بتوقيع الرئيس الأميركي أبراهام لينكولن، على التعديل الثالث عشر في الدستور الأميركي والذي حرر الجميع من العبودية، ورغم مرور 157 عاما على إلغاء العبودية في أميركا، إلا أن التمييز العنصري والصورة النمطية ما تزال تطارد الأمريكيين من أصل أفريقي.
ويتعرض الأميركيون من أصل أفريقي للعنصرية في مختلف مناحي الحياة مثل المدرسة والجامعة، وعند التقدم للوظائف والترقية في العمل، وعند محاولة استئجار، أو شراء مسكن، وعند الذهاب إلى الطبيب، أو العيادة الصحية والتصويت والترشيح في الانتخابات، لكن أبرز مظاهر الاستهداف الأكثر ظهورا يتمثل في عنف الشرطة معهم.
ويرجع خبراء ومحللون استهداف الشرطة للأمريكيين من أصول أفريقية إلى الصورة النمطية التي رسمها الإعلام عن "أسود البشرة"، باعتباره عنيفا ودائما يحمل السلاح، ما زاد من حوادث القتل بحقهم.
وتبلغ نسبة السكان الأميركيين من أصل أفريقي 12.6 المئة من إجمالي عدد الأميركيين البالغ عددهم 327.16 مليون نسمة وفقا لبيانات مكتب الإحصاء السكاني الأميركي.
اقرأ أيضا : FP: هل يكون مستقبل أمريكا مثل ماضي جنوب أفريقيا؟
استعباد كونتا كينتي، كان جزءا من سياق منح بموجبه العرق الأبيض نفسه الحق في الاعتداء على حرية وإنسانية شعوب كثيرة، مثل الأيرلنديين والبولنديين والإيطاليين والهنود الحمر وغيرهم، ممن عانوا من التمييز العنصري في المجتمع الأمريكي حتى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.
كما واجهت مجموعات أمريكية من الشرق الأوسط مثل اليهود والعرب ومن جنوب وشرق آسيا التمييز العنصري في الولايات المتحدة.
فيما جاء "اغتيال" أو"تصفية" فلويد كنتيجة متوقعة بعد تصاعد العنصرية في الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة وأكثر تحديدا بعد تفجيرات الحادي عشر من أيلول / سبتمبر عام 2001.
وزادت حدته وعنفه مع وصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض وإطلاقه تصريحات إقصائية وعدائية ضد شعوب عديدة ومواطنين أمريكيين، طالت الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما نفسه فعمد كثيرا إلى مهاجمة سلفه بالتذكير بأصوله الإفريقية، واتهامه بإخفاء حقيقة ديانته، وهو الأمر الذي كون مناخا لتقبل التصريحات التحريضية ضده، وضد شعوب أخرى حين وصف المهاجرين المكسيكيين "بالمجرمين". فيما وصف دولا أفريقية بأنها "حثالة".
وأمضى ترامب غالبية ولايته وهو يهاجم خصومه بناء على لون بشرتهم أو أصولهم وليس بناء على مواقفهم السياسية كما كان الأمر بحق أربع نائبات في الكونغرس الأمريكي، ألكسندرا أوكازيو ــ كورتيز، إيانا بريسلي، رشيدة طليب، وإلهان عمر؛ ووقوفه منصتا بغرور، طوال 13 ثانية، خلال أحد تجمعاته الانتخابية، إلى هتاف عنصري ينادي بإعادة النائبة عمر إلى موطنها الصومال. قبلها تبنى عدد من مندوبي الحزب "الجمهوري" في ولايات مختلفة طروحات ترامب حول ترحيل اللاجئين والمهاجرين، المسلمين والعرب منهم خاصة؛ ومنع المسلمين، الذين لا يحملون الجنسية الأمريكية، من دخول الولايات المتحدة.
ووفقا لدراسة أعدها "مركز الفقر الجنوبي القانوني" فإن خطابات العنصرية وضغوطات اليمين المتطرف على أصحاب التوجهات الأخرى في الولايات المتحدة شهدت "زيادة مع تسلم ترامب للحكم".
وقد زادت سلوكيات ترامب من حدة العنصريين البيض، وساهمت في طرد مهاجرين، وحظر مواطني دول ذات غالبية مسلمة من دخول الولايات المتحدة. وهو ما حذر منه الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر وقتها، قائلا: "إن ترشح ملياردير العقارات النيويوركي للرئاسة عن الحزب الجمهوري أزال الغطاء عن مستودع من العنصرية".
وأظهر تفشي وباء كورونا في الولايات المتحدة التفاوت العرقي الكبير بين الأمريكيين البيض ومواطنيهم المتحدرين من أصول أفريقية والذين ارتفعت معدلات إصابتهم ووفاتهم بفيروس كورونا بحسب ما ذكرت صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية على نحو مثير للقلق وغير متكافئ مع طبقات المجتمع الأمريكي الأخرى.
كونتا كينتي وجورج فلويد جزء من قصة العنصرية في الولايات المتحدة، و"لدي حلم" التي أطلقها الزعيم الأمريكي من أصول إفريقية مارتن لوثر كينغ تحولت إلى كابوس في السنوات الأخيرة، فكل ما "حلم" به في خطابه التاريخي الشهير تبخر وتحول إلى ثلاث كلمات "لا أستطيع التنفس".
هل تاريخ العنصرية في أمريكا تلخصه عبارة الكاتب أليكس هالي: "هنا يرقد رجل أصفر قتله رجل أسود في حرب رجل أبيض كان قد قتل كل الرجال الحمر"!