بعد حوالي أسبوعين من المسيرات والمظاهرات الاحتجاجية الحاشدة والغاضبة في كافة أنحاء الولايات المتحدة وخارجها، شهدت هيوستون الأمريكية بمشاعر من الحزن والغضب والتحدي مراسيم تشييع جثمان جورج فلويد، ضحية العنف الشرطوي وفوقيّة الرجل الأبيض.
لفظ فلويد أنفاسه الأخيرة في 25 أيار، بعد أن تم توقيفه من قبل عناصر شرطة مينيابوليس وبعدما ضغط شرطي أبيض بركبته على عنقه لفترة متواصلة بينما كان فلويد يستغيث "لا أستطيع أن أتنفس"! وقد تحوّلت كلماته الأخيرة هذه إلى شعار مركزي للتظاهرات والمسيرات الاحتجاجية ضد عنف الشرطة والعنصرية.
وعادت بي الذاكرة بهذه الأيام الّتي يخوض فيها الأفرو-أمريكيون نضالا عادلا ضد عنف وقمع "قوات الأمن" وضد استمرار التمييز العنصري بحقهم، إلى أيام الدراسة الأكاديمية في واشنطن حيث اطّلعتُ خلالها عن كثب، وبشغف كبير، على جذور التمييز والإقصاء البنيوييْن ضد أصحاب البشرة السمراء في أمريكا طوال مئات السنين - من فترة العبودية، ثم إلى الفصل العرقي في كافة مناحي الحياة (الأبرتهايد الأمريكي)، ثم إلى سياسات وممارسات التمييز التي تستمر حتى يومنا هذا، وذلك ضمن منظومة سياسية تضمن هيمنة الرجل الأبيض وفوقيته بالقانون وبالممارسة.
وتعلمتُ الكثير من المطالعة ومشاهدة الأفلام الوثائقية والاستماع إلى الشهادات الشفوية حول التضحيات والنضالات الّتي رافقت هذا النضال التحرري وحركة حقوق الإنسان، تمردا على الإرث الأمريكي العنصري، وعلى "دستوريّة" القوانين الاستعبادية والأبرتهادية (قوانين "جيم كرو" البغيضة) التي أتت لتثبيت المكانة الدونية للأفرو-أمريكيين.
تابعتُ مسيرات مئات الآلاف من السود والبيض الذين توّجوا هذا النضال بإسقاط قوانين الفصل العنصري وبتشريع القوانين المدنية ضد التمييز والإقصاء.
في منتصف الستينيات من القرن الماضي، تبنّى الكونغرس الأمريكي تعديلات جذرية في القانون الفيدرالي الرسمي وتم تشريع قوانين المساواة المدنية في كافة المرافق العامة، وذلك أيضا بعد أن تبدّلت توجهات المحكمة العليا الأمريكية التي ألغت الفصل العنصري في منتصف القرن الماضي (قرار "براون" الشهير، 1954) بعد أن كانت المحكمة ذاتها قد صادقت على هذه التفرقة العنصرية بنهاية القرن التاسع عشر (قرار "بليسي" البغيض عام 1896).
والنضال يستمر، فرغم هذه التحوّلات القانونية والقضائية بالغة الأهمية، إلا أن عنصرية الرجل الأبيض الجديدة اتخذت أطرا جديدة مركبة أكثر، عنصرية بالممارسات والتوجهات، تلتف حول القانون الرسمي لتنتج سياسات تمييزية لا تقل خطورة عن التمييز الرسمي.
وفي كل معيار اقتصادي واجتماعي، بقي الأفرو-أمريكيون في أدنى السلم الاقتصادي-الاجتماعي بعد اكثر من نصف قرن على تشريع قوانين المساواة.
لنا في هذه النضالات والمسيرات الجماهيرية والكفاحية لحماية حقوقهم ومواجهة فوقية الأغلبية المهيمنة عبرٌ كثيرة، خاصة أنها تتزامن مع استباحة الدم العربي الفلسطيني والإعدامات الميدانية التي شهدناها بحق الشهيدين مصطفى يونس وإياد الحلاق.
كما وتتزامن مع الهجمات المتجددة على بيوتنا وأراضينا، تنفيذا لسياسات هدم البيوت ومصادرة الأراضي العربية وتضييق الخناق على بلداتنا العربية، عمرانيا واجتماعيا واقتصاديا.
لنا في حركات حقوق الإنسان والحركات التحررية حول العالم ما نستفيد منه في نضالنا هنا، نضال المجتمع العربي الفلسطيني للمساواة المدنية والقومية، ونضال الشعب الفلسطيني لتحرره الوطنيّ وتقرير مصيره.
إن أصحاب أفكار وطروحات التفوّق العرقيّ والقومي لا يريدون لنا "أن نتنفس"، كما يهتف المتظاهرون اليوم في شوارع الولايات المتحدة. ففي حراكنا الشعبي تهديد لمكانتهم السياسية والاقتصادية ولهيمنتهم العنصرية؛ لكن هي تجربة الشعوب تعلمنا أهمية استمرار وتعزيز النضال من أجل حقنا في "التنفس"، وفي المساواة، وفي الكرامة وفي الحرية. هي مسيرة كفاحية مستمرة لتحصيل الحقوق ولمواطنة كاملة، بالقانون والممارسة، لكافة المواطنين.
*الصورة من زيارتي التي لا يمكن أن أنساها أيام الدراسة لضريح مارتن لوثر كينغ في أطلانطا: