عُرف التصوف في الممارسة التاريخية الإسلامية بتمركزه حول وظيفة التزكية، تأسيا بما جعله الله من وظائف الرسول عليه الصلاة والسلام المذكورة في أكثر من موضع في القرآن الكريم، كما أنه يُعنى بتحقيق مقام الإحسان المعبر عنه في الحديث النبوي المشهور "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك" بحسب أدبيات التصوف.
ويعتني التصوف كثيرا بالقلب الإنساني باعتباره المحل الذي تتجلى فيه معرفة الله، ومن ثم تنعكس أنوارها في عقل المتصوف ونفسه وروحه، وهو ما لا يتحقق إلا بمجاهدة النفس، وإلزامها بالمداومة على أذكار وأوراد مختارة، مع الاجتهاد الدائم في الطاعات والعبادات، ولا يكون ذلك إلا عن طريق شيخ طريقة وارث، يتولى إرشاد المريدين، وحثّهم على تزكية نفوسهم.
ومع أن للتصوف طرقا كثيرة، ومدارس متعددة، ومشايخ كثيرين، إلا أن الاشتغال بتزكية النفوس وتهذيبها هو العمل المركزي لسائر المنضوين تحت راية التصوف، وفق ترتيبات وطقوسيات تشكل حلقات الذكر الجماعي، والذكر الفردي، ومجالس الصلاة على النبي، والمديح والأناشيد الدينية عمودها الفقري.
ووفقا لباحثين فإن التصوف المعاصر لم يعد كما كان عليه في سابق عهده في الممارسة الإسلامية التاريخية، بل تراجع دوره كثيرا، وقل حضوره وتأثيره في المجتمعات الإسلامية المعاصرة، وغلبت الطقوسية والشكلانية على آداء الطرق الصوفية، وهو ما يضع التصوف المعاصر وشيوخه أمام تحدي بعثه من جديد، لإحياء وظيفته المركزية في تزكية النفوس وإصلاح المجتمعات.
وإبرازا للدور الذي لعبه التصوف في التاريخ الإسلامي، قال الباحث المغربي في الأدب والفكر الإنساني، عبد الهادي المهادي "لعب التصوف أدوارا طلائعية مهمة، تربويا وعلميا واجتماعيا وجهاديا، وبإطلالة سريعة على كتب التراجم والمناقب والسير يبرز مدى الحضور والحظوة اللذين كان يتمتع بهما عند عامة الناس، وكذا عند الحكام والسلاطين، خاصة زمن المماليك والعثمانيين".
وأضاف: "طبعا تاريخ التصوف شأنه شأن كل الفئات والطوائف الأخرى، خليط من الصادقين والمدّعين، ومزيج أيضا بين التأملات العميقة والمستخرجات اللطيفة، وبين القول المنحرف والمقولات المغلوطة، لكن الناس الآن ـ للأسف ـ يضعون الجميع في سلة واحدة".
ولفت إلى أن "تحوّل نظرة الناس إلى التصوف إلى حدّ شيطنته وقعت بعد سيطرة عقلانيتين على طريقة أغلب الناس؛ الأولى داخلية متمثلة في الدعوة الوهابية، والثانية خارجية متمثلة في الحداثة القادمة مع الاستعمار، أضف إلى ذلك، وربما قبل ذلك، يعود الأمر إلى عامل ذاتي كامن في الخطاب والممارسة الصوفيين المتسمين بالغرق الشديد في التقليدية والطقوسية والخرافية والسلبية" على حد قوله.
ورأى المهادي أن "الجزء الكبير من الصوفية، والمتمثل في الطرقية، أصبحوا اليوم ـ للأسف ـ بوعي أو بغير وعي، في خدمة الاستبداد ضد كل مشروع تغييري، وإن كانت خلفيته إسلامية، وشر مثال على هذا الأمر الطرقية المصرية".
وتابع حديثه لـ"عربي21" بالقول: "طبعا نحن لا ننفي أن التصوف ما زال يقوم ببعض الأدوار التربوية ذات الطابع "التزكوي"، ولكن حتى هذا الدور أصبح محصورا في فئة قليلة جدا، لأن الناس الآن بوعيهم بمتطلبات المرحلة يحتاجون لمن يقدم لهم مشروعا متكاملا؛ يضم تزكية النفس وتحليتها بالصفات الحميدة، والنضال ضد الظلم والاستبداد السياسي والاقتصادي والدفاع عن الحقوق المشروعة".
وطبقا للمهادي فإن "التصوف أصبح الآن مشروعا متجاوزا، فإجاباته على إشكالات المجتمع ما عادت تلقى القبول عند الشريحة الأكبر من المجتمع، بل إن (الاستعمار الجديد) بات يستغل مقولاته التاريخية مقولاته التاريخية لإدامة حالة السلبية والتبعية فينا، وهذا ما نجده عند أصحاب شعار (الإسلام الروحي) الذي يقدم باعتباره مشروع الإسلام المستقبلي، ويروج له بعيدا عن شعار العدل".
أما عن "المطلوب من التصوف إذا ما أراد أن يكون فاعلا في المجتمع، فعليه أولا أن يتخلى عن "الذهنية الطرقية"، وأن يجدد خطابه، وأن يتخلى عن بعض ممارساته التي لا يقبلها شرع ولا عقل ولا ذوق سليم، وأن يقوم بفرز المنتمين إليه، وأن يتسم بالفطنة واليقطة أمام التقلبات السياسية، وأن يتخلى عمليا عن مقولة "من خدعنا بالله انخدعنا له".
وفي الأطار ذاته قال الداعية الإسلامي، مصطفى أبو رمان: "ما أحوجنا في واقعنا المعاصر إلى من يقوم بالتربية والتزكية، ويعمل على إصلاح المجتمعات، والتصوف مرشح للقيام بهذا الدور، لكن مشايخ الطرق الصوفية متفاوتون في أهليتهم وقدراتهم، وثمة فروق واضحة بين شيوخ تلك الطرق".
وأردف أبو رمان: "بعض شيوخ الطرق الصوفية ليسوا أهلا للتربية والتزكية، لأن المشيخة لم تصل إليهم عن استحقاق وإنما عبر التوريث، وهذا من آفات التصوف المعاصر، وهو ما يضعفه ويخرجه عن دوره ومساره الذي ينبغي أن يقوم به ويسير فيه".
وتابع أبو رمان: "للأسف شيوخ الطرق الصوفية يصيبهم ما يصيب غيرهم من البشر من الوقوع في حظوظ النفوس وآفاتها، مع أنهم هم الذين كان يرجى منهم القيام بمهمة تزكية النفوس وتخليصها من آفاتها، وتجريدها من أهوائها، والمطلوب خروجهم من ميدان حظوظ النفس، إلى مجاهدتها وتزكيتها، وسلوك سبيل الزاهدين المخبتين، الطامعين فيما عند الله من أجر وثواب والمنازل العالية في الجنان".
وردا على سؤال "عربي21" لماذا لا يتم التعاون بين الطرق الصوفية والتشارك عبر أطر مؤسسية، حتى تكون أكثر حضورا، وأشد تأثيرا؟ ذكر أبو رمان أن "هناك من يعمل على إيجاد هيئات تنسيقية تجمع الطرق الصوفية المختلفة في الأردن" مشيرا إلى "جهود بُذلت سابقا في هذا المجال لكن لم يكتب لها النجاح".
وعن مدى إمكانية استعادة التصوف المعاصر لدوره الإصلاحي، لفت أبو رمان إلى أن الطرق الصوفية حتى تتمكن من القيام بهذا الدور الإصلاحي تحتاج إلى من يقدم لها الدعم المادي، لإنشاء المدارس والمعاهد التعليمية الدينية، التي تعلم العلم الشرعي، وتشيع الأخلاق الحسنة في المجتمعات".
من جهته لفت الأكاديمي اليمني، ماجد شبالة إلى أن "منهج التربية والتزكية عند الصوفية في اليمن حصل فيه خلل، خاصة بعد ارتباطهم بالجهات الرسمية، وأيضا ارتباطهم ببعض الدول التي تدعمهم لمواجهة غيرهم من التيارات الأخرى مما أثر على طبيعة دورهم التربوي والتزكوي".
وحتى يستعيد الصوفية دورهم الإصلاحي، فهم بحاجة إلى فك ارتباطهم بالأنظمة المحلية والإقليمية، وعدم السماح بجعلهم أداة لترسيخ الواقع السياسي، وتنفيذ الأجندات السياسية المختلفة، بما يخدم التوجه العالمي لإعادة تشكيل الإسلام بالمفهوم الأمريكي" وفق ما قاله شبالة لـ"عربي21".
وبدوره وصف شيخ الطريقة الشاذلية الدرقاوية الهاشمية في الأردن، إسماعيل الكردي ما يقال عن التصوف المعاصر أنه لم يعد قادرا على أداء وظيفة الإصلاح المجتمعي لقصور مشايخه عن دور المربين بـأنه "توصيف غير دقيق، فمشايخ التصوف لهم بصمة واضحة في المجتمعات المعاصرة، وأنتجوا جيلا متصوفا ومتعلما للعلوم الشرعية والعلوم المتنوعة الأخرى".
وأرجع الكردي تراجع دور التصوف، وضعف حضوره في المجتمعات المعاصرة إلى "إهمال غالب الدول للتصوف، وعدم تقديمها الدعم المادي له" ذاكرا أن "معظم شيوخ الطرق الصوفية من فقراء الناس، ما يعني عجزهم عن القيام بأية مشاريع تمكنهم من تقديم النفع المجتمعي لعامة الناس".
وأضاف: "لكن حينما تتوافر الأموال الداعمة فإن المتصوفة يقدمون نماذج مشرقة في البناء والإصلاح، وخدمة المجتمع، ومنها على سبيل المثال نموذج دار المصطفى في اليمن للدراسات الإسلامية، التي يتولى الإشراف عليها العالم والداعية اليمني الحبيب عمر بن حفيظ، والتي درست وخرجت آلاف الطلبة من اليمن ومن سائر العالم الإسلامي، وتقدم خدمات دعوية واجتماعية في محيطها".
وأشاد الكردي في حديثه لـ"عربي21" بتجربة جماعة "الخدمة" في تركيا، التي أسسها ويشرف عليها (فتح الله جولن) مشيرا إلى أنها "تجربة صوفية رائدة في العمل المجتمعي، وهي نموذج للعمل الدعوي والإصلاحي والاجتماعي، أنشأت مشاريع رائدة في التعليم والإعلام والعمل الخيري، وما ذاك إلا لامتلاكها الأموال، لكن الصراعات والخلافات السياسية الأخيرة للأسف أفسدت تلك التجربة، وبعثرت جهودها الخيرة".
وشدد الكردي في نهاية كلامه على ضرورة "توجه مشايخ الطرق الصوفية لإنشاء المدارس التعليمية الشاملة، لاستعادة الدور الإصلاحي للتصوف"، مبينا أن "التصوف ليس أذكارا وأورادا وحضرات ومجالس الصلاة على النبي فقط،بل التصوف يقوم على تحصيل العلم الشرعي ونشره بين الناس، والاهتمام بالمجتمعات وإصلاحها وتقديم يد العون والمساعدة للمحتاجين والمعوزين".