على مدى الأيام الماضية،
انشغلت الأوساط السياسية والإعلامية التركية بتصريحات المرشح الديمقراطي للرئاسة
الأمريكية جو
بايدن بخصوص الرئيس التركي.
فقد نُشر حديثاً مقطع فيديو
من مقابلة كانت صحيفة نيويورك تايمز قد أجرتها مع بايدن في كانون الأول/ ديسمبر
2019؛ يتعرض فيه بايدن لرأيه في
أردوغان وطريقة التعامل معه. وتضمن المقطع حديثاً
عن ضرورة دعم الولايات المتحدة للمعارضة التركية "للإطاحة به"، فضلاً عن
نعته بـ"المستبد" الذي عليه أن "يدفع الثمن".
جزء من الاهتمام التركي
بالأمر تعلق بتأخر ردة الفعل الرسمية التركية، حيث وجهت بعض الانتقادات للسفارة
التركية في الولايات المتحدة لعدم تنبهها سابقاً لهذه التصريحات التي كان مضمونها قد
نشر مكتوباً وقت إجراء اللقاء، وإن تأخر نشر الفيديو (أو بالأحرى تسريبه) حتى قبل
أيام. لكن الغضب التركي انصب بالأساس على مضمون المقابلة والأسلوب الذي تحدث به
المرشح الرئاسي.
قبل الغوص في أسباب هذا الموقف
الحاد والمعلن لبايدن من أردوغان، لعله من المهم الإشارة إلى الحضور الغريب لتركيا
كدولة وأردوغان كرئيس في سباق الانتخابات الأمريكية والتنافس بين المرشحين، لا
سيما وأن العوامل والديناميات الداخلية أهم في العادة بالنسبة للناخب الأمريكي.
وهو ما سنحاول تجليته في المقال.
السؤال هنا، ما الذي يدفع
مرشحاً للرئاسة الأمريكية لأن يتحدث بهذا الأسلوب الفج عن رئيس دولة ثانية، يصدف
أنها حليف استراتيجي للولايات المتحدة وشريك لها داخل حلف شمال الأطلسي، وصولاً
لتصريحه علناً بنيته التدخل في شؤون تلك الدولة لدعم المعارضة وإسقاط الرئيس؟
في اعتقادي أن هناك عدة
أسباب متداخلة يمكن من خلالها تفسير موقف بايدن؛ أولها تاريخ بايدن الطويل في
انتقاد
تركيا ثم أردوغان لاحقاً، فهو سيناتور معروف بموقفه الرافض للتدخل التركي
في قبرص، وممن يحمّلون تركيا مسؤولية تعقّد الحل فيها، كما أنه من الداعين لاعتماد
مصطلح "الإبادة الجماعية" بحق الأرمن لوصف أحداث عام 1915، وغير ذلك من
المواقف الحادة من أنقرة.
كما أن علاقات بايدن بأردوغان
تحديداً ليست على وئام كامل، وقد يكون الأول يقاربها من زاوية شخصية، حيث أنه كان
اضطر للاعتذار من أردوغان وتركيا مرتين، الأولى عام 2014 بعد كلام له حمل اتهاماً
ضمنياً لتركيا بتشجيع انتقال المقاتلين الأجانب إلى سوريا والمساهمة في ظهور تنظيم
القاعدة، والثانية عام 2016 عن تأخر موقف بلاده الداعم لتركيا إثر المحاولة
الانقلابية الفاشلة.
كما أن التطورات الأخيرة في
ليبيا وشرق المتوسط قد تكون ساهمت في رفع مستوى النقد لدى بايدن، المعروف بقربه من
اللوبي اليوناني في الولايات المتحدة. ولعل ذلك مما يفسر قوله إن بلاده
"تحتاج إلى العمل بجدية أكبر مع الحلفاء لعزل أفعال أردوغان في المنطقة، خاصة
في شرق المتوسط وتنقيبه النفط هناك..".
كما أن إجراء اللقاء مع نيويورك
تايمز نفسها يفسر جزئياً السقف المرتفع للموقف، فضلاً عن الموقف التقليدي
للديمقراطيين من أردوغان. ولعل عودة سريعة للعلاقات التركية- الأمريكية في عهد
أوباما ثم
ترامب تساعد على تفسير تفضيل أنقرة وأردوغان الثاني على الأول، وعلى المرشحين
الديمقراطيين بشكل عام من هيلاري كلينتون إلى بايدن.
أيضاً، فإن خلفية الرجل
وانتماءه السياسي يفسران إلى حد كبير لماذا كانت المسألة الكردية الركن الرئيس في
كلامه، والذي بالمناسبة أظهر عدم إحاطته بشكل جيد بديناميات الملف الكردي داخل
تركيا، حيث عبّر عن تصورات غير دقيقة.
أخيراً، فإن ما قاله بايدن
بحق أردوغان يعدُّ في الأساس انتقاداً مبطناً لترامب، وغمزاً من سياساته و
طريقة
تعامله مع تركيا وأردوغان خلال السنوات الفائتة. فهو يتحدث عن "اتخاذ منهج
جديد في التعامل معه"، وأن على الأتراك أن "يعرفوا أننا لن نستمر في
اللعب معهم بنفس الطريقة"، وصولاً للقول بأن "آخر شيء قد أفعله هو
الإذعان له فيما يخص الأكراد".
رغم كل ما سبق من سياقات
يمكن أن تساعد في تفسير هذا الموقف غير الدبلوماسي من مرشح رئاسي إزاء دولة حليفة،
فإنه ليس من المبالغة القول إن ما قاله الرجل قريب جداً؛ ليس فقط من موقفه الشخصي
من أردوغان، وإنما من مواقف الكثير من الساسة والمسؤولين الأمريكان.
تتحدث واشنطن كثيراً عن
الحقوق والحريات والديقراطية والأكراد، لكننا ندرك جميعاً أنها مجرد ذرائع وأدوات
تستخدمها السياسة الخارجية، بينما المشكلة الرئيسة لواشنطن مع أنقرة أنها اختلفت
اليوم عنها في فترة الحرب الباردة وأنها تسعى نحو سياسة خارجية أكثر استقلالية
وندية. وعليه، فموقف بايدن أقرب للسياسة الخارجية الأمريكية التي لا تتورع عن التدخل
في شؤون الدول الأخرى، الصديقة قبل العدوة، للتأثير في مشهدها الداخلي بما يخدم
مصالح الولايات المتحدة ويأتي بحلفائها للسلطة.
السؤال الأهم هنا: هل سيسعى
بايدن فعلاً في حال انتخابه رئيساً للولايات المتحدة لإسقاط أردوغان، بالانتخابات
ودعم المعارضة وليس بالانقلابات كما قال؟
أعتقد أن الحديث العلني بهذه
الطريقة وهذه الألفاظ يمكن حمله على البروباغندا السياسية والحملة الانتخابية أكثر
مما يمكن عدُّه خطة حقيقية للإطاحة بأردوغان. ورغم ذلك، فإن تصريحاته تدعم الفكرة
التركية الراسخة بأنه كان لواشنطن
دوراً في الانقلاب الفاشل، كما كان لها في
سابقيه.
ولعله من المنطقي أن نتوقع
موقفاً مستدركاً من بايدن (وليس بالضرورة معتذراً هذه المرة) لشرح موقفه وكلامه،
والأهم تغير موقفه وسياساته في حال انتخب رئيساً للولايات المتحدة، حيث سيفرض عليه
المنصب والمؤسسات الأخرى تعاملاً أكثر دبلوماسية مع دولة بأهمية تركيا لبلاده.
هنا، يمكن تذكر "الشتائم" التي ساقها بوريس جونسون بحق تركيا حين كان
زعيماً للمعارضة، ثم ثنائه عليها في أول زيارة لها بعد أن عين وزيراً للخارجية.
علناً وسياسةً ودبلوماسيةً،
من المتوقع تراجع بايدن عن هذه التصريحات الفجة في حال أصبح رئيساً، ولكن العلاقات
التركية- الأمريكية ستستمر في مسارها المضطرب والقائم على أرضية متوترة، وستزداد
مسوغات عدم الثقة التركية بواشنطن أكثر فأكثر.
في المقابل، فإن هذا النوع
من التصريحات لا يضر أردوغان بل قد يفيده. فالشعب التركي رافض في معظمه للتدخلات
الخارجية، ومتمسك جداً باستقلال بلاده وسيادته بغض النظر عن الموقف من الرئيس،
ولعل ذلك مما يفسر
مواقف المعارضة التركية التي ردت على بايدن سريعاً وبوضوح وحسم.
إن إطار المؤامرات الخارجية
التي تستهدف أردوغان يقوّيه ولا يضعفه، بينما السجالات المؤسسة على عوامل داخلية،
مثل الاقتصاد مثلاً، تتيح مساحة أكبر للمعارضة التركية. وبذا نقول إن بايدن قد
قدّم لأردوغان خدمة كبيرة من حيث أراد مهاجمته.
twitter.com/saidelhaj