في مقدمة الفصل الثامن (معدَّل السُّرعة) من كتابه الفريد (حياتُنا وإن طالَت: علم دراسة طول العُمر والشيخوخة) يقول جوناثان سلفرتاون أستاذ علم البيئة بمعهد البيولوجيا التطورية بجامعة إدنبره: "عِش سريعًا تَمُت صغيرًا".
شعار التحدّي لأسلوب حياة مغنّي الروك آند رول. كثيرًا ما يُكتَب بالوشم ويُطبَع في تأبين المتوفَّين في سِنٍّ صغيرة.
وإذا كان مغنُّو الرّوك نوعًا أحيائيًّا بينهم وبين أنفسهم – وربما يكونون كذلك – فمن المؤكّد أن البيولوجيين الذين يَدرسونَهم سيسجِّلون المصادفة الغريبة التي تجعل الكثيرين منهم يموتون في سن السابعة والعشرين".
صحيحٌ أنّ سلفرتاون يقول هذا الكلام مقدِّمًا لتتبُّع تاريخ نظريةٍ علميّة أحيائيّة مفادُها أنّ معدّل التمثيل الغذائي لأي كائن حي يتناسب عكسيًّا مع عُمره، وبالتالي فكلما ازداد معدّل الأيض (التمثيل الغذائي)، قلّ العُمر الافتراضي للكائن.
فخنزير غينيا مثَلاً يعيش حياةً في حدود ستة أعوام، والحصان يعيش حوالي خمسين عامًا في المتوسط، ومعدل أيض الأول أعلى بكثير من الثاني.
إلاّ أنّ مقدمة سلفرتاون تبدو صالحة لإثارة سؤال معين عن الرياضيين الشيوخ! أعني أولئك الذين يسجّلون الأرقام القياسية باعتبارهم الأكبر سِنًّا بين مَن يمارسون رياضةً ما.
هل يساعدهم على تحقيق هذا الإنجاز أنهم لم يعيشوا حياة نجوم الرياضة الصاخبة في شبابهم؟! ثم، هل الأفضل للإنسان أن يعيش شبابًا مُحاطًا بالأضواء مثل مارادونا أو محمد علي كلاي، ثم يعاني مشكلات صحّيّة خطيرة في القلب والجهاز التنفسي كتلك التي عاناها مارادونا جرّاء إدمان المخدّرات وهو في منتصف عِقدِه الخامس، أو يصاب بمرض باركنسون (الشلل الرعّاش) – الذي يشير بعض الدراسات إلى تكرار إصابات الرأس في رياضة الملاكمة وكرة القدم الأمريكية وحوادث الطرُق باعتباره مسبِّبًا محتمَلاً له – كما أصيب أسطورة الملاكمة كلاي؟ أم أنّ الأفضل أن يمارس الإنسان الرياضة في هدوء، بعيدًا عن الأضواء والتهديدات الجسدية الخطيرة والضغوط النفسية العنيفة والمُغريات، ليظل قادرًا على ممارستها وهو في عُمر الشيوخ؟
بشكلٍ شخصيٍّ، بدأت أسائل نفسي عن نمط الحياة الأفضل بين هذين النمطين حين قرأتُ عن عز الدين بهادر، المهندس المصري الذي قرر أن يكسر الرقم القياسي للإسرائيلي إسحاق حايك، حارس مرمي فريق إيروني أور يهودا، ليدخل موسوعة جينس بصفته أكبر لاعب كرة قدم في العالم.
في لقاء تليفزيوني، صرّح بهادر بأنه كان دائمًا هاويًا للُّعبة، حريصًا على ممارستها في كل مكانٍ عمل به، فلم يهجر كرة القدم في أي مرحلة من حياته.
نحن إذن أمام رياضي ظلّ يمارس رياضته المفضّلة طيلة حياته، وإن لم ينذر نفسه لها على طريقة اللاعبين المحترفين.
وفي الحقيقة، حين نشاهد بهادر في اللقطات المسجَّلة له، سواء أثناء تدريبات الإحماء أو أثناء اللعب، فسنرى كيف أن الرجل يتمتع بقدر محترم من مهارات المراوغة والتسديد فضلاً عن لياقة بدنية يحسده عليها كثيرون لم يتخطوا العِقد الرابع من العمر.
يقودنا قليل من البحث إلى رفاق لبهادر في رياضات مختلفة. لا أعني فقط أولئك الساعين لدخول موسوعة جينس، سواءٌ نجحوا في مسعاهم أو أخفقوا، وإنما أعني عموم الرياضيين الذي يُظهِرون قدرًا من المهارة واللياقة لا يجحده الحِسُّ المشترَك، في سنٍّ لا ترتبط عادةً في وعينا الجمعي بالقدرة على ممارسة الرياضة بهذا الشكل.
ولعلّ غرابة الأمر تتضح مع مراجعة اللقاء السابق لبهادر، حين يصرّح بأنه لم يخبر زوجته وأبناءه بعزمه على اتخاذ خطواتٍ تمكنه من كسر الرقم القياسي إلا قبلَ اللقاء بأسبوع واحد فقط، وذلك أنه قد توقّع ردود فعل سلبية محبِطة!
في ألمانيا هناك يوهانّا كواس، المولودة عام 1925 (95 عامًا)، وهي أكبر لاعبة جمباز تمارس اللعبة في العالَم. ولعلنا نلاحظ أنّ المثال هنا صارخ ويبدو فوق طاقة الإنسانية المعتادة، أولاً بحكم سِنّ السيدة كواس، وثانيًا لطبيعة رياضة الجمباز التي تتطلب قدرًا كبيرًا جدًا من اللياقة البدنية للقيام بالحركات الأساسية للُّعبة.
والسيدة كواس ليست فقط أكبر لاعبة جمباز، وإنما هي لاعبة شديدة التميز، فهي الأكثر حصدًا لألقاب مسابقة الهواة الكبار في الجمباز Landes-Seniorenspiele التي تُقام في زاكسن (ساكسونيا).
بَيد أنّ هناك فارقًا بين كواس وبهادر، فالأولى درست الجمباز وبدأت ممارسته في سنّ مبكرة من حياتها، فظلّ هذا النشاط يمثل تخصصها الدقيق طيلة حياتها، ولم تتوقف عن التدريب إلا لفترة وجيزة بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، حين حَظَرَ الحلفاء ممارسة الجمباز في ألمانيا، فاتجهت للتدريب في رياضة كرة اليد، قبل أن تعود بعد عامين إلى الجمباز! ولعلّ في هذه الحقيقة الأخيرة ما يمكن أن يحيط شخصية كواس بهالة أسطورية تجعلها تمثل أيقونة قومية ورمزًا للبقاء الألماني، فالتاريخ يحدّثنا عن الدور الخاص الذي لعبه الجمباز في القرن التاسع عشر في إذكاء مشاعر الانتماء إلى أمة ألمانية موحَّدة، رجوعًا إلى فريدرِش لُدڤِج يان Friedrich Ludvig Jahn (1778-1852) مؤسس حركة رياضة الجمباز الألمانية، الذي اتخذ الجمباز وسيلةً لتعليم الشباب الألماني التصدّي للاحتلال الفرنسي، حتى نجح تحالُف الدويلات الألمانية سنة 1813 في إنهاء الوجود الناپليوني الفرنسي في الأراضي الألمانية.
لكن ما يقرّب بين تجربتَي كواس وبهادر أنّ كواس هي الأخرى لم تكن لاعبة جمباز نجمةً في شبابها. فهل محض هذه الحقيقة ساعدها في الحصول على جائزة الإنجاز الاستثنائية من قاعة المشاهير العالمية للجمباز IGHOF عام 2015، وهي الجائزة المسمّاة باسم ناديا كومانتشي أسطورة الجمباز الرومانية؟ لنا أن نلاحظ أن كومانتشي نفسها -المولودة عام 1960- لم تحافظ على مثل تلك اللياقة رغم نجوميتها وفرادتها في تاريخ اللعبة، أو على الأقلّ، ليس هذا معروفًا عنها!
في الثامن والعشرين من مارس هذا العام توُفّي السبّاح الأسترالي العظيم جورج كورونس عن عمرٍ يتخطي حاجز المائة بعامٍ وأحد عشر شهرا. والمهم في حالة كورونس أنه كما تقول صفحته على ويكيپيديا توقّف عن ممارسة السباحة قبل الحرب العالمية الثانية، وقضى حياته طبيبًا، ولم يستأنف ولعه القديم بالسباحة إلا بعد أن أتمّ ثمانين عاما!
استطاع كورونس عام 2012 أن يحقق ثلاثة انتصارات في سباقات مختلفة في بطولة العالم بإيطاليا، وأن يحقق رقمين قياسيين في لقاء كوينزلاند (مسقط رأسه بأستراليا) للأساتذة Masters Swimming Queensland Meet في العام التالي، وأخيرًا استطاع وهو في التاسعة والتسعين عام 2018 أن يحقق رقمين قياسيين بالنسبة لفئته العُمرية في سباقَي خمسين مترًا ومائة متر للسباحة الحرّة في دورة ألعاب الكومنولث. أعرف أنّ كثيرين يتأففون من المبالغات، لكن هل نحن أمام إعجاز بشري؟! ربما يلاحظ المتأمل لملامح الدكتور كورونس – مثلما لاحظتُ، أو لعلّي أتوهم – شبهًا بينه وبين الأمير فيليپ زوج الملكة إليزابث، وسرعان ما نخمن سببًا لهذا الشبه، فكلاهما يوناني الأصل.
هل تخيّل (كورونس) ذات سباقٍ من تلك السباقات التي حقق فيها أرقامًا قياسيةً أنه ينافس بني جلدته الهيلينيين في ألعاب أولمپية يشرف عليها آلهة الأولمپ بأنفسهم؟! عذرًا، فأنا لا أستطيع أن أتخفف من ولعي بالمبالغة جملةً واحدة، لكنّ خبرة كورونس أكبر من مبالغاتي بالتأكيد، خاصةً أنه يمثل نمطًا ثالثًا من الرياضيين الشيوخ بخلاف بهادر الهاوي وكواس المحترفة التي لم تكن نجمةً في شبابها، فهو سبّاح اعتزل السباحة في شبابه وعاد إليها شيخًا ليصبح نجمًا عالميًّا فوق العادة!
أخيرًا، هناك البولندي ستانِسواڤ كوفالسكي الرياضي المحترف الأكبر سِنًّا على الإطلاق، وهو على قيد الحياة إلى وقت كتابة هذه السطور.
اختار كوفالسكي ألعاب القوى ميدانًا لنبوغ شيخوخته، فكسر الرقم القياسي للعَدو في سباق مائة متر للفئة العُمرية (100- 104 سنة) عام 2014 بفارق ثانية واحدة عن الرقم السابق، كما أنه يمارس دفع الجُلّة وقذف القرص.
عودًا إلى السؤال الذي أثارته المقدمة التي اقتبسناها من سلفرتاون، نعود إلى كتابه لنقدم اقتباسه هو من أغنية فريق ڤِنَم Venom (عِش كملاك ومُت كشيطان): "كل ليلةٍ أنا في مدينةٍ مختلفة. فأنا من النوع الذي يحب التجوال. أعيش مسرعًا فأنا على الطريق. أنتهز كُلَّ ما يَعِنُّ لي من فُرَص لأنني أموتُ صغيرا."
لا يبدو هذا الوصف قريبًا من نمط الحياة الذي اختاره أبطالنا الأربعة الشيوخ (بهادر وكواس وكوفالسكي وكورونس)، لكنه يبدو مناسبًا بدرجةٍ كبيرةٍ لحياة الرياضيين الذين حققوا النجومية في شبابهم، كما يبدو مناسبًا لنجوم الروك والميتال كما يعلّق سلفرتاون، وإن لم يَمُت نجوم الرياضة صغارًا، فإنهم على الأقلّ يفقدون هالاتِهم مبكّرًا في حياتهم. فأيّ الفريقَين أحَقُّ بالإعجاب؟!
في تقديري أنّ اختلاف الفريقَين يعكس بدرجةٍ ما اختلاف النظرة إلى وظيفة الرياضة. فعند الشيوخ الأبطال، ربما لم تمثل الرياضة إلا وسيلة إلى حياة أفضل وجسد أكثر مطواعيّة، بينما هي عند النجوم في شبابهم وسيلة لتخليد الذِّكر وحفر أثرٍ باقٍ في تاريخ الإنسانية.
ويجرُّنا هذا إلى أكثر حقول النشاط الإنساني ارتباطًا بالسعي إلى الخلود، وهو الدِّين بالتأكيد، فسواءٌ كنّا نتحدث عن ديانات الشرق الأقصى البراهمية التي تشيع فيها مفاهيم التناسخ ووحدة الوجود، أو الديانات الإبراهيمية التي يحتلّ فيها الإله الواحد مركز النسَق الفكري، كما يمثل فيها الإيمان باليوم الآخِر ركيزةً أساسيةً، أو الديانات الإقليمية والقبَليّة المعاصرة أو حتى الديانات العتيقة القائمة على تعدد الآلهة، في كل الحالات يجسّد الدِّين نزوعًا إلى الخلود، إمّا بإرجائه إلى ميعادٍ غيبيٍّ بعد الموت، وإمّا بإذابة الفرد الفاني في الكون الباقي، وإمّا بالتطلّع إلى آلهةٍ خالدةٍ يشاركها المتديّن الخلود بقَدر ما يُخلِص لها العبادة.
يبدو لي أنّ فريق النجوم في شبابهم يحاول بشكلٍ لا واعٍ أن يُحِلّ الرياضة محَلَّ الدِّين. فالخلود عند نجم الرياضة الشابّ متحقق لاسمِه الذي يدخل التاريخ ويؤمّن مكانًا آمنًا لنفسه في سجلاّت الأرقام القياسية، ولهذا تهون في سبيل تلك الغاية الأحمالُ التدريبية الثقيلة وساعات العُمر التي ينفقها لتحسن أدائه في رياضته المختارة.
أما فريق الشيوخ فعلاقة الرياضة بالدِّين عنده مختلفة، إذ يبدو أنه يقوم بتديين الرياضة بدلاً من اتخاذها بديلاً للدِّين! فإذا أخذنا السيدة كْواس مثالاً – وذلك أنها في رأيي تمثّل هذا الفريق أفضل تمثيل بحُكم اتصالها الذي لم ينقطع برياضتها لما يربو على ثمانين عامًا – فإنها حوَّلَت الرياضة إلى ما يشبه الطقوس الدينية التي تواظب عليها، وبدلاً من السعي لتخليد اسمها وهي شابّةٌ كناديا كومانتشي، سارت وئيدًا في طريقٍ طويلةٍ لتحقيق خلودٍ شاملٍ لكيانها كلِّه، وجسدها بالتالي، في هذه الحياة التي تعرفها.
ولنوجز ما قُلناه، يبدو أن الجمباز مع كومانتشي مثَلاً يتحول إلى بديل للدِّين، بما هو استغراقٌ كاملٌ في نشاط يخلّد اسم صاحبته ويضرب بعرض الحائط فكرة الخلود الجسدي التي تتضمّنها الممارسة الدينية، فصحيحٌ أنه يصل بالجسد إلى الكمال، لكنه كمالٌ ينظر إلى اللحظة الآنيّة فقط ولا يُلقي بالاً لما سيكون عليه شكل هذا الجسد في شيخوخته.
أما مع كْواس، فالجمباز يتشرّب رُوح الدِّين وطقوسيّتَة الرتيبة، محاولاً تحقيق فردوسٍ جسديٍّ لصاحبته على هذه الأرض، فهو في شبابها لم يكن نشاطًا يهدُف إلى النجومية وتخليد الاسم، وإنما كان يهدف إلى تخليدِ يوهانّا كواس شخصيًّا، ما استطاعَت إلى ذلك سبيلا!
رغم ذلك، يبقى الاختيار دائمًا مطروحًا أمام كل من يسلك طريق الرياضة. هل أسعى إلى إطالة أمَد بقائي صحيحًا مُعافَىً على هذه الأرض بدخول محراب رياضتي في أوقاتٍ معلومةٍ كأصحاب الطقوس الدينية؟ أم الأفضل أن أسعى إلى الكمال الآن بكلّ طاقتي لأخلّد ذِكري، وليَكُن ما يكون في غدٍ؟ هل أكون عز الدين بهادر؟ أم أسعى لأصبح دييجو أرماندو مارادونا؟!