عاد الجدل في تونس حول مدى أصالة الثورة التي اندلعت يوم 17 كانون الأول/ ديسمبر، وانتهت بمغادرة الرئيس ابن علي السلطة يوم 14 كانون الثاني/ يناير 2011. بصيغة أخرى، هل ما حدث كان تحركا شعبيا لا غبار عليه، أم كان نتيجة تخطيط محكم من قبل واشنطن، وقام جزء من التونسيين بدور الكمبارس، حيث نفذوا التعليمات، وحركوا الشارع، وخلقوا حالة من الاحتجاج العام انتهت بتغيير سياسي جعل التونسيين يصدقون بأنهم أنجزوا ثورة؟
تعود إثارة هذا الموضوع من جديد بعد عشر سنوات إلى أجواء الانتخابات الأمريكية الحامية، حيث قرر الرئيس ترامب نشر بعض البرقيات الخاصة بمنافسته السابقة هيلاري كلينتون، وذلك بهدف إثارة الرأي ضدها وضد الحزب الديمقراطي، واتهامهما بأنهما كانا وراء ما عرف بالربيع العربي. وكان هذا القرار الصادر عن صاحب البيت الأبيض كافيا ليجعل أعداء الثورات العربية يسعدون به، ويذهب بهم الظن إلى أن ذلك من شأنه أن يثبت الدليل على أن ما جرى ليس بثورة. ونظموا في هذا السياق حملات إضافية من أجل تشويه هذه اللحظة التاريخية النوعية التي مر بها الشعب التونسي.
ما ورد في هذه البرقيات نسف فكرة المؤامرة الخارجية، وقدم في المقابل حجة إضافية على أن الثورة كانت تونسية لحما ودما
ما ورد في هذه البرقيات نسف فكرة المؤامرة الخارجية، وقدم في المقابل حجة إضافية على أن الثورة كانت تونسية لحما ودما، وأن الشباب الذي انطلق في أحياء سيدي بوزيد وانتشر في مدن كثيرة حتى غزا العاصمة، لم تدربه المخابرات أو المنظمات الأمريكية كما راج، وإنما حرّكته مشاعر الغضب ضد نظام قمعي، وأن العديد من هؤلاء الشباب استشهدوا في سياق دفاعه عن الحرية والكرامة وحقه في الشغل، واحتجاجه على الفساد والظلم.
كان واضحا من خلال هذه البرقيات أن واشنطن لم تخطط لدعم الإسلاميين وإيصالهم إلى السلطة في تونس. على العكس من ذلك، كانت القيادة الأمريكية يومها متخوفة من احتمال أن يعيد راشد الغنوشي بعد عودته من لندن إلى تونس، تجربة الخميني. فمساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط في ذلك الحين، جيفري فيلتمان، اقترح على وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون دعم بعض الأسماء حتى تصل إلى السلطة في تونس بعد هروب ابن علي، وحذر من تكرار ما حصل في إيران بعد سقوط حكم الشاه. كما استحضر التجربة الدموية في الجزائر أو ما تسمى بالعشرية السوداء، بل ذهب إلى حد عدم استبعاد احتمال حدوث انقلاب عسكري. وهي فرضيات كان من المستبعد جدا أن تقع ضمن السياق التونسي، وتدل في الآن نفسه على عدم معرفة دقيقة بالأوضاع المحلية.
لم تكن الإدارة الأمريكية مهيأة لتغيير الحكم في تونس. لقد فاجأتها الأحداث، ووجدت نفسها تلاحق ما يجري أكثر من كونها تتدخل وتدير الأحداث الميدانية والسياسية
لم تكن الإدارة الأمريكية مهيأة لتغيير الحكم في تونس. لقد فاجأتها الأحداث، ووجدت نفسها تلاحق ما يجري أكثر من كونها تتدخل وتدير الأحداث الميدانية والسياسية. في هذا السياق، يهمني أن أسجل شهادة عشتها شخصيا قد تساعد على فهم الموقف الأمريكي مما حدث في تلك الأيام الاستثنائية التي عرفتها البلاد.
كنت في الدوحة للمشاركة في منتدى المستقبل الذي كانت ترعاه الولايات المتحدة، وتم يوم 12 كانون الثاني/ يناير 2011، أي قبل يومين من هروب ابن علي. اختار المنظمون أن تعقد الجلسة الختامية في شكل لقاء حواري شاركت فيه أربع شخصيات، أولها هيلاري كلينتون، وبجانبها وزير خارجية البحرين، والثالث ممثل عن اتحاد رجال الأعمال العرب، ورابعهم شخصي المتواضع ممثلا عن منظمات المجتمع المدني من دول عربية عديدة، والذي أنهى مؤتمره الخاص به، وخلص إلى عدد من التوصيات.
قبل انطلاق الندوة اتصل بي أحد مساعدي وزيرة الخارجية الأمريكية ليسألني إن كنت سأتعرض في مداخلتي عن الأوضاع في تونس، فأشعرته بأني لا أنوي إثارة هذه القضية في جلسة يحضرها أكثر من عشرين وزيرا يمثلون حكومات غربية وعربية. لكني فوجئت بمنشط الحوار الذي كان يومها رئيس تحرير الجزيرة الإنجليزية؛ يقدمني ويعلن بأني سأسلط الضوء على التطورات الأخيرة الجارية في تونس. أحرجني ذلك، لكني قلت أمام المشاركين ما يلي: "لم أتعود ان أتطرق إلى أوضاع بلدي خارج حدود الوطن وبحضور مسؤولين أجانب. أنا سأتعرض في كلمتي إلى أوضاع المجتمع المدني العربي".
أما كلينتون فقد اكتفت بمطالبة نظام بن علي باحترام حق التونسيين في الاحتجاج والتعبير عن آرائهم، ودعته إلى التوقف عن إطلاق النار وإسالة الدماء. وتبين لي يومها أن وزيرة الخارجية ومساعديها لم يكن لديهم أي مخطط للإطاحة ببن علي رغم خلافاتهم معه، كما لم يكن في حسبانهم أن الأوضاع في تونس مرشحة نحو تصعيد خطير سينتهي بسقوط بن علي وخروجه من دائرة الفعل السياسي نهائيا.
المؤكد أن ذلك حصل بعد قيام الثورة ونجاحها في إرباك الرئيس ابن علي والدفع به خارج البلاد، وهو ما من شأنه أن يؤكد أن ما حصل كان بإرادة تونسية شعبية لا غبار عليها
صحيح أن الجنرال مات وهو يعتقد بأن الأمريكان تآمروا عليه، وقرروا إزاحته بحجة أنه رفض إقامة مؤسسة لدعم
الديمقراطية في تونس، وعدم السماح لهم بإقامة قاعدة عسكرية يراقبون من خلالها الجزائر وليبيا ودول الصحراء، غير أن ذلك لم يكن كافيا لإبعاده عن السلطة، والدفع بالبلاد نحو المجهول في غياب بديل واضح.
صحيح أن الأمريكان قرروا في تلك الأيام توجيه الاهتمام بسرعة نحو تونس بعد لجوء ابن علي إلى السعودية، وحتى يكونوا قريبين من الأحداث، ولا يستبعد قيامهم ببعض الاتصالات والتحركات لمنع الانزلاق نحو سيناريوهات تتعارض مع مصالحهم ومخططاتهم الاستراتيجية، لكن المؤكد أن ذلك حصل بعد قيام الثورة ونجاحها في إرباك الرئيس ابن علي والدفع به خارج البلاد، وهو ما من شأنه أن يؤكد أن ما حصل كان بإرادة تونسية شعبية لا غبار عليها.