لا تستطيع العلمانية الادعاء بأن تاريخ المصطلح والمفهوم ومنطقهما يتعارضان مع الدين والإيمان والاعتقاد والبعد الروحي للإنسان في الحياة، لأن الوضع التاريخي في أوروبا بعد صلح وستفاليا ١٩٤٨م الذي نشأ في أحضانه ومناخه المصطلح secularism، لا يشير إلى إلغاء للدين، ولا إلى انتشار للإلحاد ونشر له ومحاربة التدّين..
نماذج علمانية صارخة
ونماذج الحكم الغربية كلها واضحة في هذا المجال ولكن منها ما يأخذه الغلو إلى حدود العنصرية، ويسيطر عليه رسيس ديني ـ صليبي وتوجهه مصالح، وذلك هو شأن نماذج صارخة في التاريخ المعاصر منها جورج دبليو بوش وتابعه توني بلير اللذين قدما أنموذج "العلمانيين" الغربيين المعاصرين في حربهما الدينية الصليبية على العراق، تلك الحرب التي لا يمكن لوحشيتها أن تُنسى، ونماذج "العلمانيين" الصهاينة العنصريين الذين تفوقوا على النازية في الإجرام بمراحل وينطلقون من اعتقاد ديني عنصري كريه وبغيض، ونماذج في إدارات أمريكية يمثلها دونالد ترامب بعنصرية عدوانية اجتثاثية ووحشية وغوغائية فاقعة.
إن على من يريد تحييد الدين في حياة البشر أن يدقق في التاريخ والتجارب والنتائج حتى لا يقف ضد الأديان وأتباعها من البشر المتدينين وهم معظم سكان العالم.. فلكل الأقوام ديانات، وحتى أن الماركسية تُرى من طرف البعض "دِيناً، بل وتعصباً لنوع من المذاهب والمناهج يفوق تعصب التدُّين".. وعلى من يريد أن يحكم باسم الإسلام، حيث تلازم "الديني والدنيوي تلازما عضويا في الاعتقاد والسلوك"، عليه أن يعي حقيقة أن الدين / الإسلام هو للناس كافة، وأن الله للجميع وقد خلق الناس وهداهم النّجدين، وأنه سبحانه هو العدل المطلق ولا يقبل الظلم ولا القهر ولا الجور ولا التعصب، ولم يعط سلطته لأحد من بني البشر، وهو النور وليس الطريق إليه ظلاميَّة كما يشيع متطرفون ومعادون للإسلام يرهبون المسلمين ويتهمونهم..
إن الاعتراف بوجود صلة عضوية بين المادي والروحي يقود إلى التكامل بينهما، مع استمرار البحث عن رائد ومتقدم أو مهيمن في الحكم والاحتكام والسلوك والطريق المشترك ربما كان هو الحدس وهدى القلب وإبصار البصيرة ـ فـ " إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور".. وربما كان هو الإنساني بأبعاده وقيمه وشمول تكوينه ورؤاه.
وحين يقوم حاكم أو متطلع إلى الحكم باسم الإسلام بإلغاء الآخر أو محوه أو الحكم عليه أو تهميشه واضطهاده وظلمه وقتله.. فإنَّ عليه أن يدرك أنه بذلك يرى بعين مشوهة تجرد الدين من قيم ومن مفاهيم إنسانية وأخلاقية وأممية وعالمية وتجرده من العدالة والتسامح، ومن الإنصاف والحرية، فدين الله للناس كافة والله هو الحاكم العادل الذي ألهم كل نَفس فجورها وتقواها، ولو شاء لجعل الناس مؤمنين أو مسلمين أو.. أو..
وقد جعل الدين سبيلاً ليبلغ الناسُ ما هو خير وعدل وأمن وسلام وعيش كريم في ظل أمن من جوع وخوف، وسخَّر لهم ما سخر، ووعد الصالحين منهم بجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين، وترك نفساً وما تختار لتتحمل مسؤولية الاختيار وثمن الحرية.
وعلى من يختار العلمانية أن يحدد أي نهج مما أصبحت عليه "بعد أن تعددت مفاهيم السياسات لها".. هل يريد الوقوف ضد الدين والتدين، أي أن يتبع نهجاً إلحادياً إلغائياً اجتثاثياً، أم يختار نهجاً مموهاً أو حربائياً، أم يريد الميل إلى نهج دنيوي الحاكمية يقارب الديني مقاربة حكيمة ويسوس الناس في الحياة بما يبقي باب الاختيار مفتوحاً، وباب الحرية مُشرعاً؟ تلك أسئلة مطروحة على العلماني وغير العلماني ممن يتطلعون إلى سياسة وقيادة ورئاسة.
المادة والروح
إن النظرة المادية الملازمة لبعض النظريات والنظرات والتأويلات العلمانية لا تتلاءم وطبيعة مجتمع مؤمن أو ديني أو متدين.. إلخ، فالمادية التي يُراد رؤيتها في العلمانية لا تقارب الروحي ولا يمكن لها أن تنفي حضوره ووجود الروحي والأخلاقي والقيمي والمثالي من الأنفس ومن التكوين الاجتماعي والعقلي والمعرفي لأفراد مجتمعنا العربي والإسلامي خاصة، على الرغم من زحف المادي والنفعي والحسي والشكلي والاستهلاكي والتطرفي والعنفي وحتى الانحلالي بصورة طاغية في حالات ومجالات على المعنوي والروحي والقيمي والأخلاقي والإنساني في حياتنا.
ثم إن الذهاب إلى العقلانية المُطلقة، "العقل المحض"، من طرق علمانية خالصة شاملة، ملفّقة أو غير ملفقة، ليس قضية محسومة نظرياً وعملياً، وقد يفضي هذا النهج بالبعض إلى تغليب "عقلي" على "إيماني" ونفي الإيمان لصالح عقل، وجعل العقلي سابقاً أو مهيمناً على الإيماني والروحاني والإلهي هيمنة ينفيه وتلاحقه وتصادره ولا تنقذه، ومن ثم يشكل هذا اعتراضاً على / بل قل نفياً، للوحي والنبوّة والأصول العقيدية "أياً كانت"، ويلزم أتباعها بما لا يقتنعون به، ويطالبهم بعرض المُعطى الاعتقادي والسلوك الفردي والجمعي القائم على الإيمان على عقلي وفق منطقه ومفهومه ومعياره وموازينه ومواصفاته، ومن ثم يلزمه بقبول أحكامه التي قد تنقض البناء الروحاني ـ الإيماني وتقلبه رأساً على عقب، أو تنفيه وتعمل على محوه وتعاقب الآخذين به، أو تجافيه على الأقل.. ويجعل العقلي مرجعية نهائية مطلقة الشمول و"قادرةً" على تقديم الحلول والأحكام وتقييم التوجهات وتصحيحها وإطلاق حكم قيمة على أصحابها.. بينما تلك قضية ليست محسومة وهي موضع أخذ ورد وتتعارض مع آراء عقلانيين كثر يرون أن العقلانية لا تتعارض مع الإيمان، وأن سيطرة العقلي ومرجعيته وحاكميته وقدرته ليست نهائية ولا تلغي الروحي ولا تتعارض بالضرورة مع الإيمان.. ولم يتأكد أو يثبت شيئ في هذا الاتجاه بصورة حاسمة ونهائية..
والعقلانية المتداولة ليست متناهية في التجرد ولا متسامية إلى درجة التماهي مع العقل المطلق المتماهي بدوره مع الحقيقة والعدل المطلق.. فالعقل عقول، والعقلانية مناهج ومدارس ومذاهب و" عقائديات" نظرية تنطلق من معطيات ومفاهيم متعددة ومتضادة أحياناً.. وعلى هذا فالعقلانية ليست مرجعية نهائية ولا هي فضاءات مؤطرة فهناك فضاءات أوسع وآماد ليست مرئية الضفاف، وهذا لا يقلل من أهمية العقلانية وضرورتها وقدرتها فهي ترتاد وتجتهد وتنفع وتساهم في اكتشاف القوانين وحل المعضلات وتعمل عملها وتقوم بدورها في كيان حي محكوم بمدار الكون وبقوانينه وتغمره القدرة الكبرى. ومن منظور الإسلام العقل هو مفتاح العلم، والعلم أحد مفاتيح اليقين والإيمان العميق وبوابة من بوابات خشية الله سبحانه وتعالى: "إنما يخشى اللهَ من عبادِه العلماءُ".
إن على من يريد تحييد الدين في حياة البشر أن يدقق في التاريخ والتجارب والنتائج حتى لا يقف ضد الأديان وأتباعها من البشر المتدينين وهم معظم سكان العالم.. فلكل الأقوام ديانات، وحتى أن الماركسية تُرى من طرف البعض "دِيناً، بل وتعصباً لنوع من المذاهب والمناهج يفوق تعصب التدُّين"..
نحن أمام معطيات عقلية مادية علمانية عالمية من جهة، وإيمانية روحية ما ورائية، وإنسانية ذاتية، متطلعة إلى كونية شاملة من جهة أخرى، وعلينا أن نقارب الأمور والخيارات لنميل إلى نهج ما وجهة ما في ضوء مفاهيم ومعايير واعتبارات ومعطيات قومية ووطنية وإنسانية، اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية قبل كل شيء.
إن الاعتراف بوجود صلة عضوية بين المادي والروحي يقود إلى التكامل بينهما، مع استمرار البحث عن رائد ومتقدم أو مهيمن في الحكم والاحتكام والسلوك والطريق المشترك ربما كان هو الحدس وهدى القلب وإبصار البصيرة ـ فـ " إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور".. وربما كان هو الإنساني بأبعاده وقيمه وشمول تكوينه ورؤاه.
العقل والإيمان
إن تنافر النسيج العضوي في الذات الحية الشاعرة بوجودها وبموقعها في الوجود، يؤدي إلى شرخ إيماني حياتي عميق يقود إلى أحد اتجاهين: مادي يُضعِف الروحي ويشكك بالآخروي، وروحي يُضعِف المادي والعلمي والتجريبي والتقني.. ومن وجهة نظر إسلامية يصعب الأخذ بقطيعة بين العقلي والإيماني وجعل أحدهما حجة على الآخر، مهيمناً عليه أو نافياً له.. أي أنه يصعب الأخذ بالعقلاني المادي الجسدي المُجَسَّد الذي ينفي الروحي الماورائي الغيبي، كما يصعب الأخذ بالروحي الغيبي المثالي الماورائي الذي ينفي العقلاني والمادي والواقعي والمنافع والمصالح وحاجات الجسد، ومنه هنا تأتي أهمية نظرة التكامل.. لأن قاعدة التوازن بين الديني والدنيوي، المادي والروحي، الحاضر الظاهر والغائب الباطن، الملموس المحسوس والحدسي.. ثنائية قائمة متداخلة عضوياً وليست رصاقات ملتصقة تشكل الكائن الحي أو تلتصق به. وهذا يشير إلى العلاقة الفريدة ذات البعد الأعلى والأسمى المتسامي بين الخالق وما بثه في المخلوق مما يجعل المخلوق يكون أحياناً شديد الخصام.. هل هي علاقة افتراق عدمي يصل إلى درجة موت الله عند الإنسان وفيه، أم هي علاقة صلة مستمرة حية في نفس المخلوق تشير إلى القدرة الإلهية للخالق وهيمنتها على المخلوق في الحياة وإلى استمرار تأثيرها وحاكميتها إلى الأبد وفيما وراء الفَناء، حيث تبقى تحكم وتحاكم في عالم ما بعد الموت وفي عالم البعث والنشور والحساب فالثواب والعقاب.. أم أنها في إطار "وحدة الوجود" كما يقول ابن عربي في الحق والخلق ويعترض عليه معترضون؟!
إن الإنسان مكلَّفٌ يحاسَب على ما كُلف به، على ما كسب وما اكتسب، ومن ذلك عيشه وعمله وسلوكه.. إلخ، وإن مجرَّد العيش تكليف فلم يُخلق الإنسان عبثاً.. ولمن يريد أن يتأمَّل ويتدبَّر ويتفكَّر ويخوض في الماديات والروحانيات والماورائيات والتفاسير والتأويل والدلالات، عبر الديني والدنيوي فإنَّ له أن يفعل.. وأن يفعل.. وأن يفعل فهو بحكم المجتهد.. لكنه سيبقى في هذه العلاقة الإنسانية بين العلمانية والإلحادية والإيمانية على ضفاف العلاقة الحياتية البشرية بين نفس وما سوَّاهاويهوِّم على ضفاف المسألة الأكبر..
المسألة السؤال الذي هو جوهر علاقة المخلوق بالخالق والكائن البشري بالطبيعة والكون وبالكائنات والآخر والمحيط والبيئة وبظواهر ومظاهر عديدة تلقيها أسئلة وتحييها أجوبة.. ومن ظواهرها كلام يحاول وصفها وتصنيفها يتساءل: هل هي علاقة إيمان أم إلحاد، قلب أم عقل، مادية أم روحية، علمانية أم دينية، خير أم شر، حرية مسؤولة أم انفلاتية متحللة من كل مسؤولية وقيد، أم قمعية تلغي السؤال والمسؤولية.. إلخ.. أم هي جِماعُ كل ذلك بعدلٍ وتوازنٍ واعتدالٍ وتكامل.؟!
كل ولي عهد حاكم هو مظلوم وظالم!
السباق نحو التعافي.. تفوق صيني وإحباط أوروبي