بغض النظر عن ظروف وتوقيت المصالحة الخليجية التي تمت مؤخرا، ومدى رضى أو عدم رضى بعض الأطراف الإقليمية عنها، لكن لا شك أنها خطوة إيجابيّة في الاتجاه الصحيح وستترك آثاراً إيجابية على مستوى دول مجلس التعاون الإقليمي والمنطقة. وأمام هذا الواقع، من الصعب الادّعاء أنّ المصالحة التي تمت بشكل أساسي بين قطر والسعودية لن تترك تداعيات جيوبوليتيكية.
إعادة صياغة موازين القوى في المنطقة
فبالرغم من طابعها البارد، فإن لهذه المصالحة القدرة على إعادة صياغة موازين القوى في المنطقة على أكثر من صعيد، فهي تساعد على جسر الهوّة التي اتّسعت مؤخراً بين تركيا والسعودية لاسيما بعد اغتيال جمال خاشقجي، وتقيدّ سياسات الإمارات المزعزعة للاستقرار في المنطقة وتقلّص مساحة التحرّك السلبي أمامها في عدد من الساحات على الأقل في المرحلة الحالية..
وتسمح هذه المصالحة للدول التي تعرضت خلال المرحلة الماضية لضغوط شديدة بالانضمام إلى معسكر ضد المعسكر الآخر (مثل الكويت وعُمان والأردن والمغرب وباكستان) بتوسيع هامش المناورة لديها والتحرك بأريحية أكبر في سياساتها الخارجية. وأخيراً، من المتوقع أن تؤدي هذه التغييرات التي قد تنجم عن المصالحة الخليجية إلى تركيز أكبر على سياسات إيران الإقليمية، لاسيما بالنسبة إلى الدول التي تنظر إلى سياسات طهران على أنّها خطر داهم يجب مكافحته والتصدّي له خاصّة مع الحديث المتزايد عن نيّة بايدن الدخول في مفاوضات مع إيران لاحقاً.
بالنسبة الى تركيا، فقد عانت خلال السنوات الماضية من التداعيات السلبية للخلاف الخليجي بشكل كبيراً سياسياً واقتصادياً وأمنياً أيضاً. الانعكاسات السلبية لهذا الخلاف لم تقتصر على العلاقات الثنائية بين تركيا وبعض دول المجلس، وإنّما تخطّتها إلى العالم العربي بأسره حيث تكثّفت جهود المعسكر المعادي لأنقرة في محاولة لرفع التكاليف وإجهادها في أكثر من ساحة وفي النهاية تقويض أهدافها.
كرّر المسؤولون الإماراتيون مؤخراً دعوتهم الى ضرورة تطبيع العلاقات مع تركيا وبناء جسور جديدة. لا شك انّ هذه الدعوة التي تأتي نتيجة للمصالحة الخليجية إيجابية في ظاهرها، لكن نظراً لسلوك أبو ظبي المعروف في المنطقة، هناك صعوبة في تصديق مثل هذه الدعوات التي ستكون بحاجة الى إلحاقها بخطوات وإجراءات جدّية على الأرض
ومن هذا المنطلق، تنظر تركيا بشكل إيجابي إلى المصالحة الخليجية لأنّها ستحمل معها انعكاسات إيجابية على أكثر من صعيد. صحيح أنّه لا ينبغي المبالغة في التوقّعات لناحية التوقيت والمضمون، لكن من المهم الإشارة إلى أنّ أي خطوة إيجابية بين تركيا والدول الخليجية سيكون لها تداعيات إيجابية على المنطقة بأسرها حتى وإن اقتصر ذلك فقط على تخفيف حدّة النزاع والتنافس في عدد من الساحات عوضاً عن حلّه بشكل نهائي.
في نهاية العام الماضي، تّخذ الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز العديد من الخطوات للمساعدة على تحقيق تقارب سعودي ـ تركي. استجابت أنقرة لهذه الخطوات بخطوات مماثلة، لكن إذا ما كان هذا التقارب سيستمر أو لا، فإنّ هذا الأمر سيعتمد باعتقادي على مسألتين أساسيّتين. الأولى، سياسة إدارة بايدن المقبلة تجاه المملكة العربية السعودية، فالمزيد من الضغط على السعودية سيؤدي إلى مزيد من التقارب السعودي ـ التركي والعكس صحيح. أمّا الثانية، فهي تجاوز مشكلة ولي العهد محمد بن سلمان مع المسؤولين الأتراك وهذا الأمر سيحتاج إلى وساطة أو اتصالات غير علنيّة في حال كان لدى الطرفين النيّة لذلك.
بالنسبة إلى الإمارات، فقد كرّر المسؤولون الإماراتيون مؤخراً دعوتهم الى ضرورة تطبيع العلاقات مع تركيا وبناء جسور جديدة. لا شك انّ هذه الدعوة التي تأتي نتيجة للمصالحة الخليجية إيجابية في ظاهرها، لكن نظراً لسلوك أبو ظبي المعروف في المنطقة، هناك صعوبة في تصديق مثل هذه الدعوات التي ستكون بحاجة الى إلحاقها بخطوات وإجراءات جدّية على الأرض حتى يتم أخذها بعين الإعتبار لدى المسؤولين الاتراك. وبغض النظر عن ذلك، لا يوجد أدى شك في أنّ المصالحة الخليجيّة ستقيّد من قدرة أبو ظبي على اتباع سياسات تقويضيّة في سوريا وليبيا والصومال بانتظار معرفة توجّهات إدارة بايدن الجديدة، وهو أمر جيّد لتركيا.
ماذا عن تركيا وإيران؟
من المتوقع ان تفسح المصالحة المجال كذلك أمام تركيا لتطوير علاقاتها بشكل أعمق ليس فقط مع الكويت وعُمان، وإنما مع مجلس التعاون الخليجي ككتلة، وهذا امر مفيد للطرفين وللمنطقة خاصة إذا ما تصاعدت التهديدات الناجمة عن التوتّر المتصاعد بين إيران والولايات المتّحدة الامريكية. علاقات الأردن والمغرب بتركيا مرشّحة هي الأخرى للتحسّن لاسيما إذا ما واصلت إسرائيل الضغط باتجاه تجاهل حقوق الفلسطينيين والبناء على الأمر الواقع.
أمّا بالنسبة إلى العلاقة مع باكستان، فقد بدأت بالفعل تشهد تحسّناً بشكل متزايد مؤخراً ومن المتوقع ان تزداد عمقاً خلال المرحلة المقبلة مع تحرّر إسلام أباد، شكلياً على الأقل، من الضغوطات الخليجية. مثل هذه التطورات الإقليمية، ستخفّف من الضغوط على تركيا وإنشغالها في مُماحكات إقليمية استنزافية، وتتيح لها التركيز على التحدّيات والتهديدات المباشرة الأكثر إلحاحاً بالنسبة لها داخلياً او خارجياً.
بالنسبة إلى إيران، فإنّ المُصالحة الخليجية تؤثّر عليها بشكل سلبي ذلك أنّه من الممكن أن تعيد تشكيل موازن القوى الإقليمية بشكل معادٍ لمصالح طهران. ومع مجيئ إدارة بايدن، فانّ القوى الإقليمية ستراقب عن كثب النشاطات المتعلّقة بإمكانية التوصل الى اتفاق بين طهران وواشنطن. أي إتفاق من هذا النوع، قد يطلق على الأرجح نفوذ إيران من جديد في المنطقة بشكل يفرض تهديداً ليس على الدول الخليجية فقط، وإنما على تركيا والمصالح التركية في سوريا والعراق وأماكن مختلفة. من شأن هذه المعادلة ـ إن صحّت ـ أن تدفع بشكل أكبر باتجاه جسر أي خلافات محتملة بين تركيا وبعض دول الخليج وذلك للتصدّي لنفوذ إيران المتصاعد في هذا السيناريو.