كنتُ في الثاني الإعدادي حين اشتبكتُ مع زميلي في المدرسة إذ واجهَني بقولِه: "المفروضُ أن تُقالَ أسماؤنا هكذا، يفصل بين اسمَي الابن وأبيه كلمةُ (بْن)." كنتُ أعرفُ أنّ هذه كانت طريقة سرد الأسماء لدى كُلّ مَن نطقوا بالضاد، لكنّني كنتُ في ذات الوقت أعتبرُ أنّ إسقاطَ هذه الكلمة يُعَدُّ تطوُّرا، وأنّ أيّ مُناداة بعودَتها تُعّدّ تأثُّرا برياح الخليج العربي وصُعودِه الاقتصاديّ.
في خلال ربع القرن الذي يفصلُني عن هذا الاشتباك، جَرَت في النهر مياه كثيرة كما يُقال، وأزعُم أنّني كان لي نصيب من مَسِّ رياح الشرق والغرب. لم أشهد تغيُّرات فكرية عنيفة، ولم تصطرع داخلي نوازع الانتماء، وإنّما تغيرَت زاويةُ نظري إلى تفصيلات كثيرة تتعلّق بمسألة الهُوِيّة الفرديّة والجَمعيّة، إلى أن أصبحتُ الآنَ مُتَّهَما بالسَّلفيّة اللُّغويّة، وسعيدا بنصيبي من هذا الاتّهام، رغم أنني لا أصنّف نفسي هكذا!
في هذه اللغة التي أكتبُ بها بُنِيَت الكلماتُ على الوصل، ومن ثم على الحرَكة، فالأصلُ في العربية أنّ هناك حركة تميّز كلّ كلمة حسبَ بِنيتِها وموقعِها من الجُملة، ولا يَسكنُ آخِر الكلمة الواردة في آخِر الجملة إلا سكونا عارضا، فالحركةُ باطنة فيها، جاهزة للظهور متى اتّصَلت الكلمة بأخرى ظهرَت بعدَها.
ولهذا السببِ نفسِه، بُنِيَ القرآنُ نفسُه على الوصل، فنحن لا نسكّن (الرَّحيمْ) في نهاية البسملة إلا إن وقفَنا عليها، لكنّ الأصلَ أن نقولُ "الرَّحيمِ" قبلَ أن نقولَ في الفاتحةِ مثَلا "الحمدُ لله رَبِّ العالَمِينَ". وحتى السكونُ المميِّز لنهاية الفعل المضارع المجزوم، إن هو إلا تعبير عن انتفاء الفعل حالَ سَبقِه بـ(لَمْ)، أو مُثول الفاعلِ أمامَ آمرِه حالَ سَبق الفعل بلام الأمر، أو توقيفِ فعلٍ على آخَرَ في حال الشَّرطِ بـ(إن)، إلى غير ذلك من حالات الجَزم. فالسكونُ هنا عارِض تعبيريّ قويّ، لكنّه يبقى مجرّدَ مرحلة في عملية الإعراب التي تشملُ الكلامَ كُلَّه من أوَّلِه إلى آخِرِه، سواء صادَفنا أولَ الكلامِ وآخِرَه، أو لم نُصادِفهما!
والمتأمّلُ نظريةَ اللغوي العظيم (أبي الفتح عثمان بن جِنّي) في الاشتقاق الكبير، يرى بوضوح أنّ مادّتي (عَ رَ بَ) و(عَ بَ رَ) واحدةٌ، فالإعرابُ (عَ رَ بَ) الذي يعني الإبانةَ عن المعنى أو الإتيانَ بالكلام فصيحا على نهج العَرَب، هو في حقيقتِه تعبير (عَ بَ رَ) عمّا في دواخِل النفوس من مَعانٍ، وإذا مضينا إلى أعمقَ من هذا، فسنجدُ أنّ المادّتَين المعجميّتَين أو الجذرَين اللغويين يعنيان في الحقيقة شيئا واحدا هو الحركة، فالعرَبُ عرب لأنهم متحرّكون ينتقلون من مكانٍ للعيش في الصحراءِ إلى آخَر، ومن مادّة اسمِهم جاءت كلمةُ (عَرَبَة) لتدُلَّ على وعاءٍ متحرّكٍ ينقلُ الناسَ أو الأشياءَ من مكان إلى آخَر، أمّا التعبير، فأصلُه (عَبَرَ) أي انتقلَ من مكان إلى آخَر، والتعبيرُ اللغويُّ إن هو إلا انتقال بالمعنى من باطن النفس إلى ظاهرِ التواصُل بين الناس.
لِذا تبدو طريقة سرد الأسماء التي استَعارَها المصريون من الاحتلال البريطاني -كما تسرَّبَت إلى العرب في المشرق والمغرب بفعل الاحتلال الأوربيّ المادّي والثقافيّ- غريبة في مَتن الكلام العربيّ؛ لأنها مبنية على تسكين أسماء الأعلام. فنحن نقولُ "كتبَ محمدْ سالمْ عُبادةْ هذا المقالَ"، فتبدو مواقِع الأسماء الثلاثة نابية بما فيها. فالتعبير العربيّ الأصيلُ يقولُ "كتبَ محمدُ بنُ سالمِ ابنِ عُبادةَ.."، مُضيفا همزةَ الوصل في (ابن) الثانية؛ لأنها ليست بنوّة متّصلة، وإنما نسب إلى عائلة. والمهمُّ في هذا التعبير، أنّ اسمي مرفوعٌ لوقوعه فاعلا، تلحقُه (بنُ) لأنّني لا أكتبُ شيئا إلاّ وفي تكويني الفكريّ الذي أفرزَ هذا الشيء بُنُوَّتي لأبي ونسبتي إليه، مهما حاولتُ التملُّصَ من هذه البُنُوَّة، ولأنّ أثرَ الآباء حاضِرٌ فيما يفعلُ الأبناء، فاسمُ أبي مجرورٌ بالإضافةِ، واسمُ عائلتي كذلك مجرورٌ بالفتحة لأنه ممنوع من الصّرف، ومحضُ بنيتِه الصرفية التي تفرِضُ نُطقَه بهذه الطريقة يدخُلُ في تكوينِ وعيي بأصولي. ما أحاولُ قولَه؛ إنّ هذه الطريقةَ العربيةَ ليست اعتباطيّة، وإنما تحملُ داخلَها فلسفة عميقة.
مَن قرأ مسرحيةَ (الأشباح) لهِنرِك إبسِنْ يعرفُ كيف رأى الكاتبُ العظيمُ خطايا الآباء وهي تكوِّن شخصيّة الأبناء، فنَصُّه يقدّم قراءة – ولو أنها قد توصَف بالتطرُّف والمغالاة – في إرث الأبوّة. ومن غريب الاتّفاق أنّ اسمَ عائلةِ الكاتبِ (إبسِنْ Ibsen) ذا الأصل الدنماركي، يعني (ابنَ إِبْ) و(إِبْ) اسمُ مختصَر ليعقوب؛ أي إنّ الكاتب المسرحيّ العظيم اسمُه (هنرِك بنُ إبْ)! والناظِر إلى الأسماء الجرمانية يجد كثيرا من أسماء العائلات التي تنتهي بهذه النهاية (ستِفنسن Stevenson – وليَمْسن Williamson – إلخ)، ويبدو أنّ هذه الأسماء التي تحمل اتّصالا بالآباء، كانت أكثر تداوُلا في هذه اللغات، إلى أن تآكَلَت رابطةُ الخَلَف بالسَّلَف.
عَودا إلى (محمد بن سالم)، ينصَبّ جهد اللغويين المُحدَثين لتخريج طريقة سَرد أسماء الأعلام المأخوذة عن الاحتلال الأوروبيّ على طريقتَين، أولاهُما إبقاء التسكين مع إعراب الاسم كاملا حسبَ موقعِه، وبهذا فإنّنا في المثال السابق نُعربُ الاسمَ مكوَّنا من (محمدْ سالمْ عُبادةْ) في محَلّ رفعِ فاعل. والحقيقة أنّ مجرّد الحاجة إلى إعراب واضح رغم طروء التسكين الأوروبيّ، يفضحُ غرابةَ الطريقة الحديثة، كما يشِفّ ارتباطا بالأصول العربية القديمة لدى فئةِ اللغويِّين والمهتمّين ببحوثِهم. قد يُقالُ إنّ هذا التسكينَ للوحدات اللغوية ليس بغريب على العربية، فهو موجودٌ في أواخر الحُروف المقطَّعة في القرآن (أَلِفْ لامْ مِيمْ). لكن يبقى وجود هذه الحروف وموقعُها سِرّا خاصّا بالنّصّ المقدَّس، وسِرّيّته لم تُوقِف النُّحاةَ عن محاولةِ تخريج إعرابِ هذه الحروف. فيبدو لي أنّ البَون بعيد بين الحروف المقطّعة في خصوصيّتها وأسماء الأعلام في تقليدِها الأعمى لطريقة الأوروبيين.
أمّا الطريقة الثانية التي يقترحُها البعضُ، فهي تُحرّك أواخِرَ الأسماءِ مع سقوط كلمة (بنِ) أو (بِنت). ويحتجُّون بإسقاط الكلمة في اسم (عمرو بن حابِس) في بيت المتنبّي:
"مَهلا ألا للهِ ما صَنَعَ القَنا .. في عَمرِو حابِ وضَبَّةَ الأغتامِ"
وهكذا يقولون بإضافة اسم الابن إلى اسم أبيه، فنقولُ "كتبَ محمدُ سالمِ عُبادَةَ"، فإن نشأت صعوبات كتوسُّط اسمِ (عبدِ اللهِ) مثلا، نلجأ إلى البدَل، أو نلجأ إلى البدَل من البداية فتكون أسماء الآباء أبدالا من اسم الابن، فنقول "كتبَ محمدُ سالمُ عُبادةُ". وهما حَلّان يبدُوان لي أكثر اتّساقا مع منطقِ العربية، فيجعلان لكل كيان من آباء الفاعلِ (محمَّد) حضورا مؤثّرا في الجُملة، إلّا أنهما يظلّان بعيدَين عن الاستخدام الشائع.
أشعر بالإعجاب تجاه أولئك الذين تجرّأوا على مواجهة السائدِ الغربيّ وقرروا كتابةَ أسمائهم على الطريقة العربية الأصيلة. بينهم أساتذةٌ في الأزهر، ودُعاةٌ إسلاميُّون، ولا غَروَ، فإنّ اعتزازَ هؤلاء بأصول العربية جزءٌ من عقيدتِهم الدّينية. وبين هؤلاء صديقُ صِبايَ وزميلي الطبيب قارئ القرآن (أحمد بنُ أسامةَ التُّرجُمان). وهو بالمناسبة ليس ذلك الزميلَ الذي اشتبكتُ معه في بداية المقال! لكنّي حين أعودُ إلى نفسي وأتأمّل تذييلَ مقال باسمي أو وضعَ اسمي على كتاب، مكتوبا (محمدَ بنَ سالمِ بنِ عُبادة) أشفِقُ من غُربة الطريقةِ بين أهلها في زماننا، ويُلقَى في رُوعي أنّ قرارا كهذا يتطلّب من الإرادة والإقدام ما أفتقِر إليه!
قد يُقال إنّ اهتماما كهذا يبدو تافها، والعالَم يغلي من حولِنا. هل قدّمنا إسهاما يُذكَر في مواجهة جائحة كورونا؟ هل واجهَنا التشرذُم الطائفيّ في طُول البلاد العربية وعرضِها؟ هل قضينا على الفقر والجهل والمرَض؟
لا! بالطبع لم نفعل شيئا من هذا، لكنّي مقتنع بأنّ اللغة تعكسُ وعيَنا بالعالَم وتقدّم للآخَرين تصوُّرَنا عنه. لماذا نكرِّر مفردةَ (بْن)؟ ألا يُعتبَر هذا فضولا من القولِ جنَّبَنا إيّاه التقادُم والاحتكاكُ بالآخَر الأوروبيّ؟
يبدو لي أنّ فُضولَ القول أمر نسبيّ يتعلّق بما نظنُّه ضروريّا أصلا من القول. وكما يتكرر حرفُ الجرّ (عن) في عالَم رِواية الحديث والأخبار وفي عالَم إجازة قراءاتِ القرآن، تتكرر مفردةُ (بْنِ)، وليست إحداهما ببعيدة في منطقِها عن الأخرى. فَـ(عَن) تؤكّد محطّات وصول القراءة أو الخبر أو الحديث، فتؤسس اتّصالا للسَّنَد وانفصالا في الآنِ ذاتِه بين الرُّواةِ، ييسّر نقدَ كُلّ منهم على حِدَة. وهكذا مفردةُ (بْن)، فإنّها تُحمِّلُ الابن تُراثَ آبائه وتفصِلُه عنهم في ذاتِ الآن، فلا تَزِرُ وازرة وِزرَ أخرى، وليس للإنسان إلا ما سَعَى!
كان أساتذة العربية يقولون لنا في مزيجٍ من السخرية والشفقة ونحن أحداثٌ في الإعدادية والثانويّة: "سَكِّنْ تَسلَمْ". أي إنك إن خَشيتَ أن تخطئ في نُطق كلمات الجُمَل على الوجه الإعرابيّ الأمثل، فأولى بك أن تنطِق أواخِر الكلمات ساكنة، لا تحرّكُها إلا بالجَرّ الذي يدعو إليه استثقالُ التقاء الساكِنَين إن بَقِيَت لك فِطرةٌ عربية. والآنَ حين أُضطَرّ لسرد اسمي في سياقٍ فصيحٍ، فآتي به على هذا النّحو (محمدْ سالمْ عُبادةْ) أشعرُ أنني إنما سكَّنتُ لأَسَلَم! ولكن مِمَّ أخافُ الآن؟! لا أدري! لقد استُبدِلَ بميراثِ آبائي ميراثُ الاحتلال الأوروبيّ الذي جعلَني أتلفّتُ حولي خائفا من شيء لا أعرفُه.
أنطقُ اسمي وأسماءَ آبائي ساكنةَ الأواخِر، مُجافية لمنطقِ لُغتي، شاهدة على جُرح غائر أحدثَه الأعاجِمُ في بِنية حياتي ولا سبيلَ إلى التئامِه، اللهم إلّا بهجرة إلى الأصل، لا تُبالي بما يُمليه شُيوعُ البلوى، ولا تخشى في الحَقّ والجَمال لومةَ لائم. وإلى أن يحدثَ هذا، فسيذيِّلُ توقيعي كتاباتي ساكنَ الأسماءِ، لا يُبدي حِراكا ممّا فيه من أثر الجُروح. كلُّ ما أرجوهُ أن تكون نيرانُه مستعرة تحتَ الرَّماد، وألّا يكون بُركانُه العارمُ قد خمدَ إلى الأبد.