تلعب
الصحافة بكافّة أنواعها، الورقيّة والإلكترونيّة، دورا مهما في بناء الدول التي تقبل الرأي والرأي الآخر، وذلك لدورها في النصح والإرشاد ومراقبة أداء الحكومات في تنفيذ خططها المعلنة، ومتابعة مدى تقبلها وتفاعلها مع حرّيّة الرأي.
والصحافة الأصيلة قائمة على المعلومة الدقيقة، بعيداً عن التهويل والتهوين، بل إنّ مهمّة الصحفيّ (والإعلاميّ) النقيّ هي نقل الصورة بلا رتوش، وكأنّ المتلقّي أمام صورة مكتوبة أو مسموعة، وإلا فإنّ غياب الموضوعيّة والمهنيّة مساهمة واضحة، وربّما مقصودة، في تنامي الظواهر السلبيّة الضاربة للإنسان والحياة في كلّ مكان من العالم.
ومع انتشار الفوضى الخلاّقة في
العراق بعد الاحتلال الأمريكيّ في العام 2003، حاولت الكثير من وسائل الإعلام تسليط الضوء على حقيقة الواقع الإنسانيّ والحياتيّ المتهالك، وكانت النتيجة أن وجّه الحاقدون على الإنسانيّة نيران أسلحتهم الناريّة والقانونيّة ضدّ الصحفيّين الأحرار من العراقيّين والأجانب.
وبمناسبة الاحتفال السنويّ باليوم العالميّ للصحافة في الثالث من أيار/ مايو، فقد أكّد المرصد العراقيّ للحرّيّات الصحفيّة مقتل 277 صحفيّا عراقيّاً وأجنبياً منذ العام 2003، من ضمنهم 164 صحفياً، و63 فنياً ومساعداً إعلامياً، كما تعرّض 74 صحفياً ومساعداً إعلاميّاً إلى الاختطاف، وقد قتل أغلبهم، وما زال مصير 14 منهم مجهولاً. ولم تكشف الجهات المعنيّة عن مرتكبي الجرائم التي يتجاوز تصنيفها بكثير أيّ بلد آخر في العالم، وأنّ العراق، ووفقاً لتقديرات أممية، يقبع في المرتبة 163 في سلّم الدول التي تواجه مشكلات مختلفة.
يُفترض ألا يغيب عن ذاكرة الجمعيّة العالميّة التضحيات النبيلة التي قدمها أولئك الذين حاربوا الإرهاب والخراب بأفكارهم وأقلامهم وألسنتهم وأدواتهم الصحفيّة التي نقلت المأساة، دون خوف أو تردّد.
إنّ الذين تورّطوا بدماء والصحفيّين ينبغي أن لا يفلتوا من العقاب، ويفترض تقديمهم إلى العدالة حتّى تبقى الصحافة القوّة الصارخة بوجه الذين لا يحبون الحياة والناس.
وللتاريخ ينبغي أن نُشير اليوم إلى ظاهرة سلبيّة موجودة لدى بعض الصحفيّين ووسائل الإعلام العراقيّة، وهم قلّة قليلة لكنّهم مؤثّرون وركضوا (بنجاح ملموس) وراء مصالحهم الشخصيّة ولو تحت عناوين فضح الفاسدين والمخرّبين، وكأنّنا أمام نوع "متطوّر" من
الفساد القائم على توظيف المعلومة والعلاقات لمصالح شخصيّة، حيث نجد أنّ هؤلاء جعلوا من المنابر الصحفيّة والإعلاميّة وسيلة تجاريّة علنيّة للثراء المخطّط له، وربّما لتنفيذ صفقات سياسيّة مدفوعة الثمن، وبالمحصّلة الضغط على هذا الطرف السياسيّ أو ذاك، عبر الابتزاز بالمعلومة، أو الضغط الإعلاميّ المتواصل!
وللموضوعيّة يمكننا تقسيم حال الصحافة والإعلام في العراق على النحو الآتي:
الصحافة المتملّقة: وهذه تتمثّل بالمنابر الخاصّة، أو تلك التابعة لبعض الشخصيّات والأحزاب المستفيدة من استمرار الحالة السلبيّة في الوطن، ومهمّتها التطبيل والتلميع لصاحب المال، والتهجّم على كلّ من يحاول توجيه النقد للمموّل الرسميّ، أو غير الرسميّ.
الصحافة الصفراء: وهذه المنابر من معاول الهدم المجتمعيّ، وتركّز على بثّ السموم ونشر التفرقة والكراهية والتنمّر، وكيل الاتّهامات لمَنْ يُخالف نهجها، وكأنّ دورها دفع القوى الشرّيرة لملاحقة الأبرياء وبلا أيّ أدلة، أو مبرّرات منطقيّة، أو قانونيّة، أو أخلاقيّة.
الصحافة المبتزة: وهذه من أخطر الأنواع التي ظهرت بعد العام 2003، وتتمثّل بقنوات فضائيّة وبعض الصحفيّين والإعلاميّين الذين يحاولون نشر بعض "الحقائق" لابتزاز القتلة والفاسدين، وقد لاحظنا أنّ موقفهم "الوطنيّ الحريص" يتغيّر بمجرّد الوصول إلى الهدف (الصفقة) وتحقيق المصلحة الشخصيّة لصاحب الوسيلة الإعلاميّة، أو الصحفيّ الذي يقود الحملة. وهذا فساد ماليّ وأخلاقيّ كبير لا يختلف عن أيّ نوع من أنواع الفساد المنتشر في جسد الدولة والذي يدّعون محاربته!
الصحافة المهنيّة: وهذه المنابر قليلة جداً، لكن يبدو أنّ الوعي الجماهيري بدأ ينضج بأهمّيّة دورها في فضح الفساد وإنقاذ المركب العراقيّ رغم السهام التي توجّه ضدّها، واتّهامها بأنّها مموّلة من الخارج، أو بأنّها إرهابيّة وغيرها من الاتّهامات الجاهزة لكلّ من لا يسير في قافلة الأطراف الشرّيرة في المشهد العراقيّ.
الصحافة هي السلطة الرابعة، ولهذا، ورغم أنّ العراق يتذيل اليوم قائمة دول العالم في ضمان حرّيّة التعبير والوصول إلى المعلومة، لكن يجب أن تبقى الصحافة الوطنيّة الحرّة ضمير الشعوب، وصوت المظلومين، وصرخة المقهورين، وأمل اليائسين والمعوزين، ومنار المواطنين لبناء السلام المستدام والغد المشرق.
twitter.com/dr_jasemj67