قبل حوالي ستّة أشهر، فاز جو بايدن برئاسة الولايات المتّحدة الأمريكية بعد أن هزم دونالد ترامب في انتخابات أثارت جدلاً واسعاً داخل البلاد. تلا ذلك توقيع الدول المتخاصمة في مجلس التعاون الخليجي إتفاق العلا الذي وضع حداً للأزمة الخليجية التي اندلعت في العام 2017. وقبل ذلك ببضعة أشهر فقط، وقّعت كل من الإمارات والبحرين اتفاقاً لتطبيع العلاقات مع إسرائيل.
تركت هذه التطورات الكبرى وقعها على منطقة الشرق الأوسط، ودفعت القوى الإقليمية إلى تغيير سياساتها الخارجية، ومحاولة التموضع، بشكل يسمح لها بالتأقلم مع هذه التطوّرات و/أو احتواء مفاعيلها. ولم تَستَثنِ هذه الأحداث أيّاً من الدول المهمّة أو الفاعلة او المتأثرة في الإقليم على الإطلاق.
هذه المقدّمة ضرورية لفهم الكيفيّة التي يقرأ فيها الآخرون هذه التطورات وتأثيراتها. هناك توجّه عام يركّز على سرديّة أنّ هذا التحوّل اقتصر حصراً على تركيا، ثمّ يتم تحميل هذا التوجّه الملتوي بحمالات أيديولوجيّة تتناسب مع هذه السرديّة، كأن يقال إنّه تمّ إجبار أنقرة على الخضوع، أو أنّ ضعف أنقرة وخسائرها الإقليمية تجبرها على التراجع... الخ.
وحقيقة أنّ الحكومة التركيّة جاهرت في الكشف عن تحرّكاتها لإعادة التموضع بما يسمح لها بالتعامل مع التطورات الكبرى سابقة الذكر لا يعني بالضرورة الموافقة على السرديّة أعلاه. بل لربما كان الأرجح القول إنّ اعتماد بعض الدول على إجراءات غير علنيّة لإعادة التموضع هو بحدّ ذاته دلالة عن حالة عدم ثقة بالنفس، أو خوف من تفسير الإجراءات المتّبعة على أنّها انعكاس لحالة ضعف أو تراجع.
من المبكّر جداً أيضاً الحديث عن تحوّلات استراتيجية تجري في المنطقة. التحوّلات الجارية حالياً لا تزال في مهدها، وهي ليست تعبيراً عن خيار استراتيجي ذاتي بقدر ما هي استجابة لمتغيّرات إقليمية ودولية.
الرواية الأحاديّة الجانب أو التي ترى بعين واحدة سرعان ما تتهاوى حينما يتم عرض المؤشرات غير العلنية المرتبطة بالطرف الآخر، أو عند مقارنتها بحالات أخرى على سبيل المثال. كما أنّ السرديّات الأيديولوجية عادة ما تؤدي إلى نتائج خاطئة، ففضلاً عن كونها بمثابة خداع للنفس، فإنها تفشل كذلك في توقّع نتائج التطورات ومآلاتها النهائية.
وفي هذا السياق بالتحديد، نجد أنّ هناك من يبالغ كذلك في التقدير لإثبات سرديّته. في المقابل، فإن هناك من يغالي أيضاً في توقّع النتائج ويضع العربة أمام الحصان إمّا لحماسة زائدة أو نتيجة التعويل على الأماني بدلاً من الوقائع، ما يدخله في مسار الاستباق الواضح للأحداث. وسواءً كان المعني بذلك ينتمي إلى الاتجاه الأوّل أو الاتجاه الثاني، فإن من المفيد بمكان الإشارة إلى أربع نقاط مهمّة:
أولا، حصول جهود لتحقيق التقارب بين بعض دول المنطقة لا يعني أنّه سيكون هناك تصفير للمشاكل. مرحلة تصفير المشاكل ارتبطت بحالة الجمود التي كانت المنطقة تعيشها، أمّا بعد الثورات العربية التي اندلعت في عام 2011، فالتغيّرات في المنطقة أسرع من أن يتم احتواؤها بسياسة صفر مشاكل دون حصول تغييرات عميقة. محاولات إعادة التموضع لا تعني أنّه لن يكون هناك خلافات أو مشاكل، لكنّها تعني حالياً عدم التصعيد، وتهدئة الأجواء، والنظر في إمكانية البناء على المصالح المشتركة.
ثانياً، من المبكّر جداً أيضاً الحديث عن تحوّلات استراتيجية تجري في المنطقة. التحوّلات الجارية حالياً لا تزال في مهدها، وهي ليست تعبيراً عن خيار استراتيجي ذاتي بقدر ما هي استجابة لمتغيّرات إقليمية ودولية. هذا يعني أنّ تراجع المتغيرات الأساسية، أو تبدّلها لاحقاً قد يملي سياساتٍ جديدة، أو يغيّر من اتجاه المسارات القائمة حالياً، خاصة إذا لم تحقق جهود التقارب اختراقات كبرى و/أو عميقة وبقيت في حدود الهامش.
ثالثاً، العقلانيّة في قراءة التحولات الجارية أمر مهم جداً لاستيعاب التطورات من جهة، ولمحاولة توقّع القادم بشكل أدق من جهة أخرى. فضلاً عن ذلك، فإن من المهم أن يتم الابتعاد عن القراءات الأيديولوجية التي تُخصّص عادةً للتعبير عن خلفيّة وانتماءات وأجندات الجهة التي تقف خلف مثل هذه السرديات من جهة، ولمحاولة التأثير في العموم من جهة ثانية. غالباً ما تخلق مثل هذه المحاولات انطباعاً زائفاً لدى المتلقّي يتناقض مع الوقائع ما يؤدي في النهاية إلى حالة من الصدمة.
أخيراً، لا بد كذلك من الاحتفاظ بشيء من الحذر في ما يخص توقّع نتائج محاولات إعادة التموضع من قبل دول المنطقة، ذلك أنّ بعضها قد يواجه عقبات لاحقاً، أو لا يحقق خرقاً، أو لا تدوم طويلاً، أو تعود وتنقلب إلى سابق عهدها، على اعتبار أنّ بعض هذه التحولات لم يأتِ نتيجة قناعة أو نتيجة معطيات داخلية محضة ولذلك فهي تتأثر بالمتغيرات الإقليمية أو الدولية التي قد تحدث لاحقاً نظراً لارتباطها بها.
Twitter: @alibakeer
تركيا تتحرر من قيود الابتزاز الأمريكي
لماذا تراوح عملية التطبيع التركية-السعودية مكانها؟