لمّا كان الإرهاب "فيروسا بات شأن الظلّ الملازم لكلّ نظام هيمنة، مستعدّا في كلّ مكان لأن يستيقظ كعميل مزدوج، لم يعد هناك أيّ حدود فاصلة تسمح بمحاصرته، فهو في قلب الثقافة التي تحاصره"، وفق تعبير عالم الاجتماع الفرنسي جان بودريار في كتابه "روح الإرهاب"، وأمام عدم نجاعة المعالجات الأمنيّة والسياسيّة التي تمّ ضبطها واستنساخها لاحقا شمالا وجنوبا منذ أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001، يكون من المهمّ البحث في مربّعات الفكر والثقافة بوصفهما وصلا إلى سلوك الإنسان والقيم وبغيابهما يختلّ معيار تقويم السلوك الإنساني الذي لا يعدو الإرهاب أن يكون سوى إحدى تجلّيات هذا الاختلال السلوكي.
وبحكم تقاطع العمليّات الإرهابيّة مع ظاهرة التديّن الإسلامي وطقوسه في كثير من الأحداث التي هزّت أوروبا ما بعد 11 أيلول (سبتمبر) 2001، تبدو الحاجة ملحّة أمام الدّعاة والمشتغلين على الحقل الإسلامي إلى البحث عن سبل تأسيس منظومة قيميّة إسلاميّة سويّة في جميع أشكاله وتعايشه بعيدا عن التباغض والعنف والتطرّف، استنادا إلى تعاليم الإسلام السمحة التي تعدّ في بعدها القيمي مرجعا أساسيا لتأسيس قيم يحتاجها عالمنا اليوم للتصدّي للتطرّف العنيف والإرهاب بشكل متنام منسجم مع روح الإنسانية التي قعّدت لها النصوص الإسلاميّة المؤسسة.
في هذا الإطار تتنزّل الندوة الموسومة بـ"أزمة القيم وعلاقتها بالإرهاب"، التي نظّمتها وزارة الشؤون الدينية التونسية سنة 2018 بمدينة قفصة (400 كلم جنوب العاصمة) وتم حوصلة مجمل إسهاماتها البحثية في كتاب إلكتروني بعنوان "أزمة القيم وعلاقتها بالإرهاب" صدر في شهر نيسان (أبريل) 2021 وقدّمه أحمد عظوم، وزير الشؤون الدّينيّة.
وقد اجتهدت الندوة من خلال جملة من المحاور التي أثثها باحثون ومشتغلون على الفكر الإسلامي، في صياغة نموذج لمنظومة القيم الإنسانيّة في عالمنا اليوم وناقشت مدى مشروعيّة القول بأزمة القيم وتأثر ذلك بالعولمة ومدى تأثير هذه الأزمة في التعايش السلمي وما يتهدده من قبل عديد الظواهر وعلى رأسها ظاهرة الإرهاب.
وضمّت الندوة الورقات البحثيّة التالية: "مشروعيّة القول بأزمة القيم" للدكتور الصحبي بن منصور و"القيم في الفكر الإنساني" للدكتور رمضان البرهومي و"أزمة القيم والتغيّرات الإقليميّة والدّوليّة الرّاهنة" للأستاذ فيصل المرزوقي و"أزمة القيم والعولمة من منظور العلوم الإنسانية" للدكتور محمد التومي و"خواء النّفس وإملاءات الإرهاب" للدكتور عبد القادر النفّاتي و"من أجل منظومة تربوية تبني القيم" للأستاذ فوزي المحواشي و"التعايش على قاعدة القيم المشتركة" للقاضية فاتن السبعي.
مشروعيّة القول بأزمة القيم
يرى د. الصحبي بن منصور، أستاذ الحضارة بجامعة الزيتونة، أنّ ما يدفع إلى التعمّق في دراسة أسباب أزمة القيم ومظاهرها وانعكاساتها على سلوك بعض الأفراد ممّن انخرطوا في ما أسماه بـ"تيار التطرّف العنيف"، هو محاولة فهم العلاقة بين أزمة القيم الوليدة وبين تفشّي ظاهرة الإرهاب. ويضيف بالقول إنّه بديهي أن يسهم التكوين الثقافي للأفراد في تعديل سلوكهم وتوجيهه نحو الوجهة المرسومة سلفا له، حيث إنّه لا يمكن التوصّل إلى فهم معمّق للسّيرورات الكبرى في حياة المجتمعات أو محاولة التأثير فيها من دون أن نأخذ في الاعتبار القيم والمنظومات المعيارية، على وجه الخصوص الأخلاقيّة، التي تتحكّم في أنماط الفعل والحراك على صعيد الأفراد والجماعات.
وبناء عليه يؤكّد بن منصور إنّ أيّ تغيير في المجتمعات يكون مبتورا أو عقيما، إذا لم يُبنَ فيها التغيير على أرضيّة ثقافيّة صلبة تكون الأخلاق فيها هي الحاضنة الواسعة واليوميّة لكل ما يبدر عن الفرد بصورة عامّة في مجتمعه، باعتبار أنّ "الأخلاق الحميدة هي المرآة العاكسة لثقافة الشعوب وتديّنها وتحضّرها"، وفق ما ذهب إلى ذلك بوجمعة محفوظ في كتابه الرقمي "إمتاع الأنام بأخلاق وآداب أهل الإسلام".
القيم كسبيّة تزرع بواسطة التربية والتعليم
يشير بن منصور إلى أنّ القيم تعني اصطلاحا الصفات الأخلاقيّة التي نعبّر عنها بالأقوال والأفعال. وأنّها ليست فطريّة وإنّما هي كسبيّة تزرع بواسطة التربية والتعليم وعن طريق محيط العيش. ويعدّ تفريط الإنسان في القيم بمثابة التفريط في وسيلة لرقيّه الاجتماعي، وكل إهمال لثقافة استحسان مكارم الأخلاق والتنشئة عليها والمداومة على تكريسها في الواقع المعيش يقود حتما إلى إضاعة القيم والأخلاق التي تظلّ "أصل كلّ شيء، فإذا فسدت القيم والأخلاق انهار الإنسان وأصبح حيوانا مفترسا"، مثلما يذهب إلى ذلك محمّد أمين الحق في ورقته البحثية "القيم الإسلامية في التعليم وآثارها على المجتمع" المنشورة بالمجلّد التاسع من مجلّة "دراسات". وقد راهن الإسلام على الانتصار للقيم باعتبار أنّها من نتائج أزمة القيم وتداعياتها على المجال الأمني.
لا سبيل لتغيير هذه الصورة النمطيّة والتشويهية عن الإسلام إلا بمراجعة المسلمين لتاريخهم الثقافي واستئناف علاقات الأخوّة بينهم في إطار كوني يقوم على التنوّع الثقافي والدّيني وهي الحقيقة التي تمثّل أساسا لوحدة المسلمين في مواجهتهم لتيارات التطرّف وخطاب الكراهية في الفضاء الثقافي الإسلامي أوّلا وفي صلة المسلمين بالأفضية الثقافيّة والدّينيّة الأخرى.
يؤكد د. الصحبي بن منصور على أهمية رصد الصراع المحتدم داخل نفسية المواطن التونسي بين القيم المجتمعية المحلية وبين القيم الوافدة في سياق عصر مُعولم زالت فيه كافة أشكال الحدود، حتى نعت بزمن موت الجغرافيا، وكذلك رصد أهمية الصراع الفرعي النّاتج أحيانا عن الصّراع الأوّل للقيم الأصيلة والقيم الدّخيلة، وهو صراع خطير يطغى عليه الجانب المسلّح بين قيم الدّولة المدنيّة الحديثة وبين قيم المتمرّدين عليها، لرفضهم آليات وتسميات العصر الحديث في إدارة الشأن العام، باعتبار أنّها على حدّ رأيهم بضاعة مسمومة من بلاد العدو الغرب الكافر.
القيم الإسلاميّة حصانة ضدّ أشكال التعصّب والغلو والتطرّف
يشدّد د. رمضان البرهومي، أستاذ العقيدة وعلم الكلام بالمعهد العالي للحضارة الإسلاميّة، على الحاجة إلى الاشتغال على المحاذير والالتباسات التي تشوب العلاقة بين الثقافات باعتبارها المكوّنات الرّئيسيّة لبناء الحضارة الإنسانيّة القائمة على اتساع دلالة المواطنة بما يتجاوز حدودها الجغرافيّة وامتداداتها التّاريخيّة. اشتغال يتجاوز التجريد الفلسفي إلى ما هو تعاطِ فعلي مع أبرز القضايا تشعّبا وأخطبوطيّة في مسيرة الفكر البشري المنفتحة على تحوّلات متفاوتة في عمقها وتأثيراتها، بما يعطي الفرصة لتقليص الفوارق الثقافيّة.
ويعتبر البرهومي أنّ هذا التقليص يعدّ أساسا اعتقاديّا لكونيّة المواطنة القائمة في ضوابطها وتشريعاتها على مبدأ التنوع الثقافي وثمارا طيبة للانتساب الكوني للإنسان يقوم على عمق اعتقادي توحيدي بما هو مقصد مشترك في الكتب السماوية بما هي دليل قائم في تعاقبها على أصالة التنوّع الثقافي في صيرورة الوحي الإلهي باتجاه تأسيس كونيّة المواطنة في صيرورتها المندثرة والمشار إليها في القصص القرآني في مثل قوله تعالى "شرع لكم ما وصّى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصّينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدّين ولا تتفرّقوا فيه".
يؤكّد البرهومي على أهمية النصوص التأسيسية في القرآن الكريم والسنّة النبويّة فيما تنسجه من وحدة بيانيّة متكاملة لمنظومة القيم الأخلاقية الإسلاميّة إذ تجلى لنا هذه الحقيقة غير منفصلة عن حقيقة الوحي الإلهي باعتباره خطابا عامّا لكلّ النّاس ومعبّرا عن المضامين القيميّة والأخلاقية السّامية وبناء نظاميا واقعيّا وديناميكيّا تتحرّك فيه التجربة الإنسانيّة منفتحة على كلّ خبراتها النّفسيّة والشعوريّة والفكريّة والرّوحيّة والاجتماعيّة والإنسانيّة، مستوفية شروط مسؤوليتها الاستخلافيّة، وهو ما يجاوز بها الأبعاد الكونيّة. إنّ هذا المدار الروحي الأخلاقي هو الذي هدف إليه الرسول الكريم بقوله: "إنّما بعثت لأتمم حسن الأخلاق"، وهو الأرضيّة الكفيلة لترشيد أشكال التواصل الإيجابي مع الآخر وتحصين مسالك التعالق بينهما بعيدا عن أشكال التعصّب والغلو والتطرّف، يضيف البرهومي.
المجتمعات الإسلامية مجتمعات تعددية منفتحة
يؤكّد د. رمضان البرهومي أنّ المجتمعات الإسلاميّة ظلّت مجتمعات تعدّدية منفتحة على كلّ الإسهامات الحضاريّة كما ظلّت الثقافة الإسلاميّة ثقافة حوار وانفتاح وامتصاص ـ على حد وصف د. عبد العزيز التويجري ـ واستيعاب أخذا وعطاء وللثقافة الإسلاميّة من المقوّمات القويّة ما يجعلها اليوم تستأنف دورة حضارية جديدة تستعيد فيها نماذج الامتياز في بنيتها الفكريّة والإيمانيّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة التي تسهم في إغناء الحضارة الإنسانيّة باعتبارها عناصر أساسية للتعاون الحضاري والتفاعل العالمي في مختلف المجالات الإبداعيّة برغم ما عايشه المسلمون على امتداد العصور المتأخّرة من تحوّلات أفضت إلى أزمات انفكّت فيها الممارسات عن التّأصيل النظري في مواجهة التعصّب والغلو وسرطان الإرهاب ورفض المغايرة والاختلاف لا داخل الجسم الإسلامي فقط بل وخارجه في مواجهة الغرب، ما جعل الإسلام يحمل صورة غير منسجمة مع حقيقة دعوته الرّوحانيّة وهو ما برّر بالنّهاية موجات الإسلاموفوبيا خاصّة بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) التي استعدى فيها الغرب المسيحي الجاليات المسلمة والعمل على ربط الإسلام بالعنف والإرهاب.
يرى البرهومي إنّه لا سبيل لتغيير هذه الصورة النمطيّة والتشويهية عن الإسلام إلا بمراجعة المسلمين لتاريخهم الثقافي واستئناف علاقات الأخوّة بينهم في إطار كوني يقوم على التنوّع الثقافي والدّيني وهي الحقيقة التي تمثّل أساسا لوحدة المسلمين في مواجهتهم لتيارات التطرّف وخطاب الكراهية في الفضاء الثقافي الإسلامي أوّلا وفي صلة المسلمين بالأفضية الثقافيّة والدّينيّة الأخرى.
كيف يتجاوز العنف الدفاعي المشروعية إلى الضرورة الحيوية؟
الحوار الإسلامي-المسيحي.. تونس أنموذجا للرهانات والعوائق
الكويت.. مخطط بناء الدولة رسخ الانقسام بين البدو والحضر