كتاب عربي 21

تونس.. الشعب يريد برلمان الشعب

1300x600

قد لا يدرك كثيرون اليوم أنّ الانقلاب الذي عرفته تونس مؤخرا لا يستهدف شخوصا بعينها بل يستهدف التجربة الديمقراطية الوليدة برمتها، فهو أخطر من كل ما تروّج له الأذرع الإعلامية الناطقة باسم المشروع الانقلابي. الهدف ليس حركة "النهضة" ولا نواب الكرامة ولا حتى الفاسدين من السياسيين ورجال الأعمال كما توهم بذلك خطابات رئيس الجمهورية، بل إن الهدف المركزي هو المسار الديمقراطي السلمي الذي عرفته الثورة التونسية منذ الانفجار الكبير أواخر سنة 2010. 


عرفت الثورة هزات كبيرة، وهذا أمر متوقع في المحيط العربي والمغاربي المجاور، لكنها لم تنزلق إلى ما انزلقت إليه بقية التجارب العربية من حروب ودماء بسبب خصوصية المجتمع التونسي الفاقد لكل شروط التقاتل والاحتراب الأهلي. لكنّ أعظم نجاحاتها إنما تتمثل في قدرتها على تنظيم عدد من المواعيد الانتخابية الواعدة فشكّلت عددا من الحكومات وانتخبت مجالس برلمانية وصاغت دستورا وتداول على السلطة أكثر من رئيس وهذا هو جوهر نجاحها. 


أما إصرار الرئيس على تجميد عمل البرلمان ومحاصرة نوابه بعد رفع الحصانة عنهم وإغلاقه بالمدرعات العسكرية فهذا هو أخطر ما ارتكبه الانقلابيون. فحتى شعار "الشعب يريد" الذي يتغنى به المُنقلب إنما هو شعار شعبوي فضفاض أفضى في تجارب سياسية أخرى إلى حروب ودماء ومجازر كما كان الحال في ألمانيا النازية. 

البرلمان التونسي 


شكّل البرلمان أو مجلس نواب الشعب حجر الزاوية في المسار السياسي التونسي وضم تشكيلات سياسية وحزبية وأيديولوجية متباينة عكست ألوان الطيف المحلي. كما ضم البرلمان عددا من مكونات النظام القديم ورجال العهد السابق من رجال الأعمال الذين كوّنوا ثروات طائلة من منظومة الفساد التي كانت قائمة وهو أمر طبيعي في مسار ديمقراطي وليد. كان البرلمان ساحة للصراعات والتجاذبات والمصادمات التي لا تنتهي وهو كذلك أمر طبيعي وضروري في مسار انتقالي من سلطة الحزب الواحد والرجل الواحد والزعيم الواحد إلى سلطة المجموعة.


مشاهد المشاحنات بل حتى مشاهد العنف لا تكاد تختفي من كل برلمانات العالم بما فيها أعتى الدول الديمقراطية وهو الأمر الذي ينسحب على البرلمان التونسي فلا يعدّ استثناء. لكنّ حداثة الشعب بالبرلمان وجلساته التي كانت تبثّ على الهواء مباشرة أسقط على المشهد كل صفات العجز والفشل والفساد والتآمر. فقد يكون بين النواب نائب فاسد لكنّ هذا لا يعني أن كل النواب فاسدون وأنّ البرلمان فاسد.


يرى كثير من العقلاء أنّ مجلس نواب الشعب هو صورة من الشعب نفسه ممثلا بكل أطيافه وسلوكياته وإيجابياته وسلبياته، بل يجب أن يكون كذلك حتى يكون ممثلا لشعب تونس، فالتجارب الديمقراطية مسار عسير وبناء شاق لا يستوي إلا مع الزمن كما علمتنا أغلب التجارب الديمقراطية عبر العالم.   

شيطنة البرلمان 


أخطر تصريحات رئيس الجمهورية هو تصريحه الأخير بأنّ البرلمان صار خطرا على الدولة، وهو بهذا التصريح يُفصح عن أدق مشاريع الانقلاب. فكيف يكون البرلمان خطرا على الدولة وهو برلمان منتخب انتخابا مباشرا حرا نزيها؟ وكيف يمنح الرئيس نفسه صلاحية الحكم على برلمان الشعب وهو جزء من الجهاز السياسي بما يجعله فاقدا لشرط الحيادية؟ 


لكن من جهة أخرى يظهر جليا للمتتبع أنّ شيطنة البرلمان كانت هي الأخرى مسارا متكاملا منذ الانتخابات الأخيرة وهي شيطنة تمت عبر ثلاثة أطراف رئيسية:


أما الطرف الأول فيتمثل في البرلمان نفسه حيث تكفلت كتل بعينها بإرباك عمل المجلس وتعمّد العربدة والصراخ وتعطيل الجلسات بدعم من قوى إقليمية كانت تجهّز البلاد لسيناريو الانقلاب وعلى رأسها كتلة الدستوري الحرّ والتيار الديمقراطي. نجحت هذه المجموعة نجاحا كبيرا في استدراج عدد من النواب وإيقاعهم في حبائل التعطيل والفوضى وهو الأمر الذي أضفى على المجلس صبغة من العبث التي كان التونسيون يشاهدونها يوميا. 

 

يرى كثير من العقلاء أنّ مجلس نواب الشعب هو صورة من الشعب نفسه ممثلا بكل أطيافه وسلوكياته وإيجابياته وسلبياته، بل يجب أن يكون كذلك حتى يكون ممثلا لشعب تونس فالتجارب الديمقراطية مسار عسير وبناء شاق لا يستوي إلا مع الزمن كما علمتنا أغلب التجارب الديمقراطية عبر العالم.

 


تمثل الطرف الثاني في الأذرع الإعلامية التونسية التي لا تزال مرتبطة بالنظام القديم والتي تمكنت من قيادة حملات تشويه منظمة ضد البرلمان ونوابه عبر التركيز على الخلافات البينية والصراعات الأيديولوجية القديمة. قاد الإعلام التونسي هجمات شرسة ضد البرلمان بتصويره مركز الأزمات وسبب ما وصلت إليه البلاد من انسداد وفوضى كما أثثت برامجها بضيوف بالغوا في شيطنة البرلمان واعتباره رأس الشرور كلها. 


أما الطرف الثالث فقاده رئيس الجمهورية نفسه ومجموعة مستشاريه عندما رفضوا التدخّل لنزع فتيل الفوضى في البرلمان، بل شاركت الرئاسة في تأجيج الأوضاع البرلمانية حين كانت تستقبل طرفا وترفض طلب لقاء طرف آخر أو حينما تعنّت الرئيس في قبول أعضاء الحكومة التي صادق عليها البرلمان. 

أزمة البرلمان 


كانت الخلاصة أن تحوّل البرلمان في ذهن عامة الناس إلى بؤرة الفساد التي لا خلاص لتونس إلا بالخلاص منها، وهنا نجحت الخطة الجهنمية في دفع الشعب إلى الإطاحة بصوته السياديّ الوحيد في منظومة السلطة وبنائها السياسي. لم تكن الجماهير تدرك أنّ البناء البرلماني بناء يشيّد عبر التجارب والتراكمات وأنه مؤسسة تُنحت مع الزمن عكس غيرها من المؤسسات السيادية. 


لم يكن عسيرا على رئيس الدولة إذن تفعيل الفصل الثمانين من الدستور وتعليق عمل المؤسسات السيادية لأن الذهنية الشعبية كانت مستعدّة للإطاحة بالبرلمان والحكومة. بل إن الرئيس خرق الفصل نفسه الذي ينص على بقاء البرلمان في حالة انعقاد دائم في حال تفعيل الإجراءات الاستثنائية وهو الأمر الذي يرجح أن البرلمان كان المؤسسة المستهدفة بالانقلاب. 


ليس هناك من حلّ دستوري للبلاد يحفظها من الانزلاق في المحظور سوى العودة إلى الأطر الشرعية وإعادة البرلمان إلى الانعقاد حتى تنتفي صفة الانقلاب عن المغامرة التي أقدم عليها الرئيس. لن تقبل الدول المانحة ولا صندوق النقد بتقديم مساعدات مالية دون وجود برلمان يصادق على الحكومة وعلى القروض ولن تكون الحكومة شرعية ما لم يصادق عليها البرلمان وهو الأمر الذي يجعل من عودة البرلمان أمرا حتميا لا خيار فيه. 


دون إعادة صوت الشعب إلى الشعب ودون العودة إلى الأطر الدستورية الشرعية فإن البلاد ستكون مفتوحة على كل الاحتمالات بما فيها الأكثر وحشية وعنفا في محيط إقليمي وعربي مشتعل. لا تزال أمام الفرقاء في تونس فرصة لإنقاذ البلاد وإنقاذ المسار الديمقراطي قبل فوات الأوان لأن الطريق الذي انتهجه الرئيس المغامر طريق مسدود لا انفراجة فيه. عندها ستكون الأزمة الأخيرة التي عرفتها تونس درسا قاسيا للجميع حتى يدركوا خطورة الأمانة التي بين أيديهم وحتى يعلموا أن السلطة مزالق ومنحدرات قاتلة قبل أن تكون سرابا من الوجاهة الكاذبة.