قضايا وآراء

عبد الوهاب عزام.. ذكرى إمام

1300x600

تَحِلُّ غدا (28 من شهر آب / أغسطس)، ذكرى مولِد أحد سدنة التراث الإسلامي وثقافته في العصر الحديث، وأحد من وقفوا بوجه عبد العزيز فهمي ودعوته إلى استبدال الحرف العربي باللاتيني. وهو إمام المدرسة المصرية في الدراسات الشرقية؛ الذي أسهم بجهده الدؤوب في توطيد صلات العرب الثقافيَّة بالفرس والتُرك وأهل شبه القارة الهنديَّة.

 

كان رحمه الله أول من علَّم اللغة الفارسية وآدابها في الجامعة، حين كانت الجامعة المصريَّة لا تزال هي الجامعة الوحيدة في كل من آسيا وأفريقيا، عدا اليابان. وبفضله استقرَّ تدريس الفارسيَّة، وعليه تتلمَذَ جيل الرواد المصريين والعرب في الدراسات الشرقيَّة، وأشهرهم تلميذه المقرَّب يحيى الخشَّاب، رحمهما الله.

ولد العلَّامة الأديب في إحدى قرى محافظة الجيزة بمصر عام 1894م، في بيت علم وأدب وسياسة. وبعد أن حَفِظ القرآن الكريم وتعلُّم مبادئ القراءة والكتابة ـ في كُتَّاب القرية ـ ألحقه أبوه بالأزهر الشريف، ومنه إلى مدرسة القضاء الشرعي، التي كان من أوائل من تخرَّجوا فيها عام 1920م؛ فاختير مُدرسا بها. بيد أن تلك الوظيفة الحكومية لم تُشبع توقه؛ فالتحق بالجامعة المصريَّة، لينال شهادة الليسانس في الآداب والفلسفة عام 1923م، قبل اختياره في هذا العام نفسه إماما ومستشارا للشؤون الدينية في سفارة مصر بلندن، على حسب العُرف المتَّبَع آنذاك، في مجتمع كان بعضه لا زال يُجاهد للحفاظ على تقاليده.

 

وفي بريطانيا، التحق أستاذنا بمعهد اللغات الشرقية بجامعة لندن، وحصل على درجة الماجستير في الأدب الفارسي عام 1928م، عن "التصوف وفريد الدين العطار". وعاد بعدها إلى القاهرة ليعمَل مُدرسا بكلية الآداب، التي حصل منها على درجة الدكتوراه في الأدب الفارسي عام 1932م، عن بحثه الذي تناوَل كتاب الـ"شاهنامه" لأبي القاسم الفردوسي.

وقد جعل يُدَرِّس الفارسية في كلية الآداب، التي تدرَّج في وظائفها العلمية، حتى عُين أستاذا ورئيسا لقسم اللغة العربية والدراسات الشرقية، ثم عميدا لكلية الآداب عام 1945م. وقد انتُدِبَ في هذه الأثناء مرتين للتدريس في جامعة بغداد، وانتُخِبَ عضوا بمجمع اللغة العربيَّة المصري عام 1946م، كما كان عضوا بالمجامع اللغويَّة والعلميَّة في سوريا والعراق وإيران.

 

كذلك شغل الدكتور عزام عدَّة مناصب دبلوماسيَّة تليق باتساع نطاق أنشطته الفكريَّة والثقافيَّة؛ فكان وزيرا مفوضا لمصر ثم سفيرا لها في السعوديَّة، وسفيرا لمصر في الپاكستان، وحين تقاعَدَ عام 1956م؛كلَّفته السعوديَّة بإنشاء جامعة الملك سعود بالرياض، وكانت آنذاك أوَّل جامعة في جزيرة العرب. وقد ظلَّ رئيسا لهذه الجامعة إلى أن توفاه الله، في الثامن من شهر كانون الثاني/يناير عام 1959م؛ فنُقِلَ إلى القاهرة ودُفِنَ في مدافن أسرته بحلوان.

وهو ابن عم المجاهد والسياسي الكبير: عبد الرحمن عزام، مؤسس الجامعة العربيَّة وأول أمين عام لها، كما أنه الجد الذي يلتقي عنده ـ من جهة الأم ـ الدكتور أيمن الظواهري زعيم تنظيم القاعدة، والدكتورة رضوى عاشور الروائيَّة الشهيرة وأستاذ الأدب الإنجليزي.

كان الدكتور عزام رائدا موسوعي الثقافة، يُجيد الفرنسية والإنجليزية والفارسية والتركية والأردية، وقد خلّف عددا كبيرا من الكتب والدراسات في ميادين مُتعددة، تفرَّقت بين التأليف والتحقيق والترجمة؛ فمن تآليفه الكثيرة: "ذكرى أبي الطيب بعد ألف عام" 1936م، و"التصوف وفريد الدين العطار" 1945م. وقد كان أول من عرَّف العرب بالشاعر الفيلسوف محمد إقبال، في كتابه: "محمد إقبال: سيرته وفلسفته وشعره" 1954م، ثم ترجم له بعض دواوينه عن الفارسيَّة، منها: "ديوان الأسرار والرموز"، و"ضرب الكليم" و"پيام مشرق"، علاوة على جهوده في التعريف بالشاعر التُركي الأشهر: محمد عاكف آرصوي.

أما بعض إسهام عزام في تحقيق النصوص التراثية؛ فمنه تحقيقه لترجمة الفتح بن علي البنداري لملحمة الفردوسي: "شاهنامه" عام 1932م، وللسفر الثمين: "كليلة ودمنة" عام 1941م، بالاشتراك مع طه حسين، ولـ"ديوان المتنبي" عام 1944م. علاوة على نشره عددا ضخما من المقالات في عدد من المجلات المرموقة: "الرسالة"، و"الثقافة"، و"الأديب"، و"الهلال"؛ في موضوعات أدبية شتى.

 



وقد أنهى أستاذنا ترجمة الكتيب الممتع: "فصول من المثنوي" عام 1946م، وقدَّم له بعدد من المقالات، التي كان قد نشر أصولها في مجلَّة "الرسالة" عام 1942م. والكتاب ـ كما يُعرِّفُ به مصنفه ـ ترجمةٌ لبعض فصول مثنوي مولانا جلال الدين الرومي، غرضها "التعريف بالصوفيِّ العظيم جلال الدين، وبالأدب الصوفيِّ الذي زَخَرَتْ به اللغةُ الفارسيَّة". 

ورغم كثرة نشرات نصوص تراثنا الحديث في الآونة الأخيرة، لأعلام من أمثال أستاذنا عبد الوهاب عزام رحمه الله وأكرم نُزُلَه، لكنها نشرات تخلو تماما من الإتقان، وتكشف عن الاستعجال المَشين، والرغبة المجرَّدة في الارتزاق السريع من هذا النتاج الثري، أكثر مما فيها من التقدير الحقيقي لهذا التراث، ناهيك عن الحد الأدنى من العناية به، والمحاولة الجادَّة لإعادة دمجه في حياتنا الفكريَّة والثقافيَّة.

وقد أملَى علينا تقديرنا لأستاذنا رحمه الله، ولرَحِم العلم التي وصلت أسبابنا بأسبابه، أن نعتني بالكتاب عناية فائقة، ونجتهد في نشره نشرة حسنة تليق به؛ لنُهديه ـ في حُلَّته القشيبة ـ إلى روح أستاذنا العلامة يوم مولده. فعسى الله أن يتقبل منا، ويعفو عنا، ويثقل ميزاننا وميزان الأستاذ بما خطَّت يداه. إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه.