كتب

ما الخطأ في نشر مخطوطة الخالدي عن الصهيونية؟

كتاب يراجع مفاهيم الصهيونية وسياقاتها الدولية وتداعياتها (عربي21)

الكتاب: النقد الناعم للصهيونية والرواية التوراتية في كتاب روحي الخالدي"السيونيزم"
المؤلف: خالد الحروب
الناشر: الأهلية للنشر والتوزيع/2021

قبل نحو عام صدر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية والمكتبة الخالدية في القدس كتاب تحت عنوان "السيونيزم ـ أي المسألة الصهيونية ـ أول دراسة علمية بالعربية عن الصهيونية". الكتاب الذي قدم له وحرره وليد الخالدي، المؤرخ الفلسطيني المعروف، هو مخطوطة غير مكتملة للمؤرخ الموسوعي الفلسطيني محمد روحي الخالدي (1864 ـ 1913) لم ينشرها وحفظت في أرشيفات العائلة، وعثر عليها في جزءين؛ الأول مكتوب بخط يده، والثاني بخط شخص آخر.

عنوان الكتاب (المخطوطة) أثار، على ما يبدو، فضول بعض المهتمين بموضوع الصهيونية وحماسهم للاطلاع على ما يتوقعون أنه قراءة تحليلية مختلفة، قد تكشف حقائق جديدة، بحكم معايشة صاحبها لزمن تشكل هذه الحركة، وما يمكن أن تكون قد أتاحته له الظروف من مراقبة حيثيات تطورها وتوغلها، الذي انتهى إلى احتلال بلد كامل وتشريد شعبه. 

خالد الحروب، الكاتب والباحث الأكاديمي المتخصص في الدراسات الدولية، الذي كان "متشوقا" لقراءة هذا الكتاب، أصيب كما يقول بخيبة أمل كبيرة وحيرة عند قراءته، ووجد نفسه محاطا بتساؤلات كثيرة، دفعته لتسجيل مقاربة نقدية لكتاب روحي الخالدي، منطلقا من الإحساس بالمسؤولية العلمية والوطنية، على حد تعبيره، مؤكدا أن نشر مخطوطة الخالدي كان "خطأ كبيرا" لأنها لم تكن على الإطلاق جاهزة للنشر، إذ تفتقر إلى توثيق المصادر، وتمتلىء بالأخطاء، التي تضر بمكانة صاحبها كمؤرخ رصين، ولا يمكن اعتبارها مرجعا في دراسة الصهيونية سواء في زمن كتابتها أو حاليا، بحسب الحروب.

خالدي آخر

يبدأ الحروب مقاربته النقدية، الكتاب موضوع العرض هنا، بالتعريف بروحي الخالدي وثقافته الرفيعة والاستثنائية في زمنه، وبعض إنتاجاته التي تؤكد مكانته العلمية المتميزة، فيصفه بـ "الباحث الدقيق والعميق، والمؤرخ الموسوعي الذي يفيض حماسة حول ما يكتب وينخرط في الموضوعات نقدا وإضافة"، وهي صفات جعلته يقف مندهشا أمام صفحات "السيونيزم"، إذ وجد "كاتبا متسرعا لا يدقق في المعلومة، ويأخذ من الآخرين دون النسبة إليهم، ويكتب ببرود.. في موضوع هو أخطر الموضوعات على وطنه، ولا يندمج في كثير من جوانبه نقدا وتحليلا"، "هناك روحي خالدي آخر" لا يرتقي لمستوى الخالدي الذي عرفه الحروب في الكتب التي أنجزها المؤرخ الراحل وأشرف على طباعتها بنفسه، وهو الخالدي الذي ينحاز إليه الحروب، ويعتبر مقاربته النقدية لمخطوطته في جوهرها، كما يقول، دفاعا عن موقعه في التاريخ الفلسطيني والعربي وعن مكانته الريادية.

يشير الحروب إلى أن في نص المخطوطة "السيونيزم" نسخ شبه كامل لكتاب نجيب نصار "الصهيونية: ملخص تاريخها، غايتها وامتداداتها حتى سنة 1905" المنشور سنة 1911، وهو، كتاب نصار، ترجمة بتصرف وتلخيص لبعض الأجزاء من الموسوعة اليهودية، مع إضافات نقدية من قبل نصار، ينقض بها الأطروحات اليهودية والصهيونية الخاصة بالعودة إلى فلسطين. وهو بحد ذاته لا يعتبر نصا علميا، بل هو أقرب إلى النص التحريضي قصد به التعريف بخطر الصهيونية وتنبيه العرب والفلسطينيين والعثمانيين إلى أهدافها. 

غير أن مخطوطة الخالدي تنقل نصوص نصار التي ترجمها مع حذف تعليقاته، ومن دون الإشارة إلى أن النص والاقتباسات المطولة قد أخذت من نصار أو من الموسوعة اليهودية. يستبعد الحروب أن يكون الخالدي قام بالانتحال قصدا، "فمكانته العلمية والبحثية تجب عنه مثل هذا الفعل.. وهو ما كان لينشر هذه المخطوطة قبل أن يعيد تحريرها وينسب الاقتباسات إلى مصادرها"، لكن بسبب ذلك "شاعت" فكرة مغلوطة مفادها أن مخطوطة الخالدي هي أول نص كتب بالعربية عن الصهيونية، و"الصحيح موضوعيا وتاريخيا أن هذا التوصيف ينطبق على كتاب نجيب نصار بالدرجة الأولى".

ينظر الحروب إلى حذف تعليقات نصّار باعتباره خللا علميا كبيرا في الكتاب (المخطوطة)، فقد أدى ذلك إلى "تسرب مقتطفات طويلة من الموسوعة اليهودية التي تطرح الرؤية التوراتية والصهيونية إلى "السيونيزم"، من دون أن يدرك القارئ أصل هذه المقتطفات، وفي ما إذا كانت مقولات للخالدي أم مجرد اقتباسات". الخطورة، كما يقول الحروب، تكمن في أن الموسوعة اليهودية تعمل على فبركة تاريخ متخيّل حول فلسطين أساسه الرواية التوراتية، وهو تاريخ يعتمد على القصص والأساطير التلمودية ويستنتج منها جغرافية معينة في فلسطين، وتسلسلا مختلقا للحوادث فيها، وكذلك إلصاق أسماء وأوصاف توراتية بأماكن ومناطق ومدن ليس بالضرورة أن تكون الأماكن الحالية. وهو تاريخ علاقته واهية إن لم تكن معدومة مع التاريخ الحقيقي للأحداث والحضارات والمدن والناس الذين عاشوا في فلسطين بحسب ما كتبه المؤرخون الإغريق والرومان أو العرب والمسلمون في مراحل لاحقة. 

لذلك أظهرت النصوص الأولية لمخطوطة الخالدي التي نشرت في الثمانينيات والتسعينيات مؤرخا فلسطينيا كبيرا وكأنه مقتنع بالرواية التوراتية عن تاريخ فلسطين. حتى أن جوناثان غريبتز، الأكاديمي الأمريكي الذي كتب بغزارة حول فلسطين العثمانية وقرأ هذه النصوص الأولية، قال إن "الخالدي أقر بوضوح بأن اليهود كانوا في فلسطين قبل العرب أو المسلمين.. في حين أن ما قرأه غريبتز في نص الخالدي هو أصلا رأي الموسوعة اليهودية منقولا عن ترجمة نصار وليس رأي الخالدي نفسه". 

غياب المساءلة والنقد

يورد الحروب أحد الاقتباسات التي يعتبرها مثالا صارخا على التورط في استخدام المرويات التوراتية من دون أي مساءلة أو نقد من قبل الخالدي. يقول الاقتباس: "تمكن العبرانيون من تأسيس دولة صغيرة على عهد داود وسليمان عليهما السلام بلغت حدودها حماة ونهر الفرات بالقرب من حلب وتدمر وخليج العقبة من جهة الجنوب، وتم بناء الهيكل في أورشليم على زمن سليمان عليه السلام وبعد وفاته نحو 930ق.م.." يقول الحروب إن الحدود التوراتية المشار إليها هنا ومعها المملكة اليهودية لم تقم على الأرض. وتبعا للنصوص والأدبيات التوراتية فإن اليهود الذين جاؤوا إلى فلسطين من مصر قضوا قرونا طويلة من دون "مملكة" أو "ملك" إذ كانت شؤونهم تدار عبر كهنة وقضاة وليس عبر حكام.

ويضيف: جانب آخر يضاعف الدهشة في هذا الاقتباس هو ذكر سنة تقريبية لوفاة سليمان من دون التساؤل على أي أساس علمي ورد هذا التقدير، علاوة على ذلك فقد أضاف أسلوب الخالدي في احترام الأنبياء وإيراد تعبير "عليهما السلام" تعزيزا آخر ل"صدقية" ما ورد في النص ولو بشكل غير مباشر.

 

يؤكد الحروب أن فلسطين وردت اسما وموضوعا ثلاث مرات على الأقل، مرتان في التساؤل عما إذا كانت الوجهة التي يجب أن تقصدها الصهيونية في خططها، ومرة أخرى عندما أشار هرتسل إلى تعهد اليهود بمساعدة تركيا في أوضاعها المالية في حال وافق السلطان عبد الحميد على إعطاء فلسطين لهم.

 



يفند الحروب أيضا ما أشار إليه وليد الخالدي في مقدمة الكتاب من أن روحي الخالدي لم يكتف بما كتب نصار بل رجع إلى النص الأصلي لكتاب هرتسل "الدولة اليهودية" بدليل وجود نص من الكتاب قام بترجمته وضمنه المخطوطة. 

يؤكد الحروب أن هذا النص غير موجود في كتاب هرتسل، بل إن الأفكار الواردة فيه منتقاة من ثلاث صفحات تم تجميعها على شكل فقرة متكاملة، دون أن تتم الإشارة إلى طبيعة هذا الاقتباس التجميعي، عدا عن أن الفقرة ذاتها تحتوي على عدم دقة في الإضافة والترجمة. 

أمر آخر يراه الحروب معززا لتساؤله حول حقيقة رجوع الخالدي لنص هرتسل الأصلي، هو تعليق الخالدي الذي ذكر فيه أن هرتسل لم يتكلم في كتابه عن الصهيونية، ولم يذكر اسم فلسطين. يقول الحروب: إن جوهر كتاب هرتسل تجسد في الدعوة إلى الفكرة الصهيونية التي مضمونها الحصول على وطن لليهود، مستنكرا أن يخلص أي قارئ للكتاب إلى نتيجة مغايرة. ويؤكد الحروب أن فلسطين وردت اسما وموضوعا ثلاث مرات على الأقل، مرتان في التساؤل عما إذا كانت الوجهة التي يجب أن تقصدها الصهيونية في خططها، ومرة أخرى عندما أشار هرتسل إلى تعهد اليهود بمساعدة تركيا في أوضاعها المالية في حال وافق السلطان عبد الحميد على إعطاء فلسطين لهم.

برود لافت

يطرح الحروب مجموعة من التساؤلات في مقاربته النقدية يعتبرها ضرورية ليس فقط إزاء مخطوطة الخالدي، إنما "لإعادة النظر البحثي في العديد من القراءات التاريخية لرموز تلك الحقبة الزمنية، فلسطينيا وعربيا، من منظور تقييم ما كتبوه وأنجزوه ومقارنته بما كان بإمكانهم كتابته وإنجازه ضمن سياقاتهم التاريخية". 

وفي هذا السياق يتساءل حول سبب إغفال الخالدي بشكل تام أي دور للدول الأوروبية الكبرى في دعم الحركة الصهيونية، وتأييد فكرة عودة اليهود إلى فلسطين. وهو، الخالدي، بحسب مصادر مختلفة صاحب نشاط دبلوماسي مكنه من الاطلاع على العلاقات الدولية الصهيونية. وعدا ذلك فقد لاحظ الحروب أن الخالدي يكتب في مخطوطته "ببرود لافت رغم وضوح موقفه الرافض للصهيونية". فكتابه يغيب عنه السجال الأكاديمي والسياسي. و"جل ما يقوم به هو إيراد المعلومات والحقائق وترتيبها بشكل موضوعي ومدرسي، وبأقل درجة من الانخراط في الموضوع". 

هذا "البرود" في تناول الصهيونية قاد الخالدي إلى التعبير عن نوع من الإعجاب غير المباشر والمبطن بإمكانيات الصهيونية وقادتها وخاصة هرتسل. وفي مقابل ذلك نجد نبرة استشراقية في ما يكتبه عن بدو جنوب فلسطين الذين وصفهم بـ"العربان المقبلين على المسكرات والغانيات"، بحسب الحروب.  

يقول الحروب إنه اجتهد في مقاربته النقدية هذه في "إيجاد تفسيرات ومخارج محتملة للأخطاء والاختلالات العديدة والمؤسفة التي وردت في الكتاب المنشور" للخالدي، ويؤكد في ختامها أن دافعه في نشرها هو نقض المخطوطة كمرجع محتمل أو دراسة معتبرة عن الصهيونية، "خاصة بسبب التقدير والمكانة العالية للمؤلف والمحرر والقيمة الاعتبارية المقدرة للمؤسستين الناشرتين". ويضيف أنه لو حمل غلاف الكتاب عنوانا يشير إلى كونه مخطوطة غير مكتملة وليس "أول دراسة علمية بالعربية عن الصهيونية" لربما ما كان لهذا النقد أن يصدر.