ليس مطلوبا على الإطلاق أن تتأبد القطيعة، أو أن تستمر لوقت طويل أو مفتوح. ألم يخض البلدان المغاربيان في السابق تجربة استئناف علاقتهما الدبلوماسية بعد قطعها، وبادرا لإعادتها إلى ما كانت عليه؟ فماذا كانت النتيجة بعدها؟ وما الذي حصل حين قرر المغرب والجزائر منتصف الثمانينيات أن يستأنفا تلك العلاقات في أعقاب قطيعة طويلة بينهما بدأت في 1976؟ هل استخلصا في الحين ومن كل ما جرى بينهما طوال أكثر من عقد، أي عبرة أو درس؟ وهل فعلا ما كان مطلوبا منهما فعله ليمنعا تكرار ما لحق بعلاقتهما من عطب وشرخ؟
لا شك بأن ما جرى قبل أيام كان الدليل الأقوى على أن لا شيء من ذلك قد حصل بالفعل، وأنهما فشلا تماما في تحقيق أي تحصين أو تطوير أو ارتقاء بعلاقتهما، ربما لأنهما اعتبرا أن اعتماد السفراء بينهما، وبقاء السفارات مفتوحة في العاصمتين، هو في حد ذاته أقصى ما يمكنهما على المستوى الثنائي تحقيقه.
وقبل أسبوع فقط، وبعد تصاعد النبرة بينهما على مدى الشهور الأخيرة، تساءلنا بشيء من التهكم وبكثير من المرارة عن أي قاع أكثر عمقا يمكن أن تنحدر إليه العلاقات الجزائرية المغربية، أكثر من القاع الذي وصلته بالفعل. ولم يتأخر الجواب، فقد أعلنت الجزائر الثلاثاء قبل الماضي، ومن جانب واحد، قطع علاقاتها الدبلوماسية مجددا مع جارتها الغربية، والآن وبعد أن وصلت الأمور بين البلدين إلى ذلك الحد، ومع تخوف البعض من تواصل انحدارها وبلوغها، لا سمح الله، مرحلة المواجهات، أو المناوشات العسكرية المباشرة بينهما، فهل إن أقصى ما بات بالإمكان التطلع له وتمنيه هو أن تستعيد تلك العلاقات الوضع الذي كانت عليه قبل الرابع والعشرين من الشهر الماضي؟ وإن كان ذلك قد صار بالنسبة للبعض أقصى الغايات، فهل سيكون من المفيد إذن أن تعود حليمة مجددا وللمرة الثانية، لعادتها القديمة، أي أن تُستأنف العلاقات ويتم الاحتفاء بها بحرارة، من خلال تبادل الكلمات الرقيقة والابتسامات العريضة، ثم تترك كالريشة في مهب الرياح سرعان ما يعصف بها أقل طارئ أو مستجد، أو حادث قد يتسبب فيه هذا الجانب أو ذاك؟ لم تقدم معظم المواقف الإقليمية والدولية التي انحصرت الأسبوع الماضي في التعبير عن مشاعر الأسف، أي تصور واضح عما سيحصل في تلك الحالة، رغم أن أغلب من اختاروا ذلك، إما عن قناعة مبدئية أو لدوافع وغايات تكتيكية، لم يخفوا تطلعهم لأن تعود العلاقات بين الجارتين وفي أقرب وقت إلى طبيعتها، وكأنها كانت قبل قطعها «سمنا على عسل» لكن ألم تكن تلك الدعوات نوعا من التشخيص الخاطئ والمغشوش للعلة على طريقة «وداوني بالتي كانت هي الداء»؟ فمنذ متى كان العقار الفاسد هو البلسم الشافي من الأسقام والآلام المزمنة؟ لا شك بأن كثيرين فعلوا ذلك بحسن نية، غير أنه كان من الأفضل لو أنهم قدموا أعمالا ومبادرات، بدلا من الاكتفاء بالتعبير عن أحلام وأمنيات بعيدة. ويبدو أن الحلقة بدأت بالتوسع، فالأحد الماضي انضمت لسجل المتأسفين على العلاقات الجزائرية المغربية المقطوعة دولة أخرى هي جيبوتي، وبذلك صارت آخر وأحدث الملتحقين بالقطار، فقد أعربت وزارة خارجيتها في بيان رسمي عن «أسفها البالغ لقطع العلاقات الدبلوماسية بين الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية والمملكة المغربية الشقيقتين» ودعت «لتغليب لغة الحوار وتسوية الخلاف بالطرق الدبلوماسية بما يتضمن عودة العلاقات إلى طبيعتها، ويعزز الأمن والاستقرار والازدهار في المنطقة، ويخدم العمل العربي المشترك». وفي الواقع لم يكن البيان الجيبوتي سوى نسخة مكررة وطبق الأصل من بيانات وتصريحات عديدة صدرت في عواصم أخرى. لكن بعد أن وقع الفأس في الرأس وقضي الأمر، ألم يعد التفكير في أفضل طريقة لاستثمار الرجة النفسية التي أحدثها قطع العلاقات الدبلوماسية بين الجارتين، لإعادة النظر في تأسيس تلك العلاقات مجددا على ثوابت وركائز جديدة أجدى وأولى من أي شيء آخر؟ أليس التخطيط لذلك أنفع للبلدين والشعبين من التباكي على علاقة لم تكن أبدا بالمثالية التي قد يتصورها البعض، أو يحاول إيهام نفسه قبل غيره بها لدوافع وأغراض سياسية؟ إن مشاعر الأسف التي عبر عنها كثيرون وتضمنها عديد البيانات الرسمية، التي صدرت عن أكثر من دولة مغاربية وعربية تعليقا على إعلان وزير خارجية الجزائر رمطان لعمامرة رسميا عن القطيعة مع المغرب، لا تعكس بالمرة طبيعة تلك العلاقات التي كانت فارغة من أي مضمون، ولم تكن أبداً جديرة بالاحتفاظ بها أو إبقائها على الحال الذي كانت عليه. فما الغرض الحقيقي من وراء فتح السفارات واعتماد السفراء، إن لم يكن التواصل الدائم والمستمر بين الدولتين؟ وما الجدوى منها إن كانت قنوات الحوار بينهما ظلت ولسنوات طويلة مسدودة ومقطوعة؟ وما فائدتها إن كان سيل الاتهامات والتهديدات التي تبادلها البلدان على مدى عقود وبشكل دوري ومتواصل، فاق بمرات ومرات أعداد المشاريع المشتركة التي أنجزاها معا؟
إن المشكل الأزلي بين المغرب والجزائر هو أنهما لم يحددا إلى الآن ما الذي يريدانه من علاقاتهما بالضبط؟ وكيف يتصور كل بلد منهما دوره وموقعه الإقليمي بالنظر لدور وموقع الطرف الآخر، ومع إنهما ينفيان تماما أن تكون لهما أي نوايا توسعية، كأن يحلم أحدهما مثلا بقيام جزائر كبرى، أو يسعى الآخر لتأسيس امبراطورية مغربية ممتدة الأطراف، فإنه ليس واضحا بالضبط عن أي مغرب عربي كبير يتحدثان ويؤكدان في كل مناسبة على تعلقهما وتمسكهما الشديد به، وتطلعهما الحثيث لبنائه. وليس ثابتا بعد ما إذا كان مغربهما هو مغرب الدول الثلاث الأخرى المنضوية تحته، أي ليبيا وتونس وموريتانيا؟ والسؤال الكبير هنا هو، هل أن الخلاف الأصلي والعميق بينهما يمكن أن ينحصر في النزاع على ملكية أراض؟ أم أنه يتحدد بالأساس في الرغبة في الانفراد بالسيطرة الإقليمية؟
من الواضح أن كثيرين يرون أنه لا يمكن لقوتين بحجم المغرب والجزائر أن تتعايشا في محيط إقليمي واحد، إلا إذا أخضعت إحداهما الأخرى وتفوقت عليها. والانفصام الحقيقي الذي يعيشه المغاربة والجزائريون، هو أنهم وفي الوقت الذي يعتقدون فيه أنهم إخوة يتعاملون بين بعضهم بعضاً كالاعداء.
لكن أين الخلل؟ وما الذي يجعل العلاقات الجزائرية المغربية على ذلك النحو؟ قد يقول البعض إن ملف الصحراء، أو النزاع على الحدود هو الذي يسمم الأجواء بين الجارتين، لكن القضية قد تتلخص في جملة واحدة وهي، أن لا أحد منهما كان أو ما زال يثق بالآخر، ولأجل ذلك فإن بناء الثقة بينهما يبقى أهم ألف مرة من إعادة سريعة لعلاقات لم يأسف على رحيلها أحد عدا بعض الحكومات، وآخرها قد تكون جيبوتي.