قضايا وآراء

يا حرية

1300x600
أعاد أبطال سجن جلبوع الروح إلى العالم العربي الغارق في أتون الكآبة؛ نتيجة سجن الاستبداد الذي يحاصر الشعوب العربية ويخنق آمالها وطموحاتها في الحرية والكرامة.

على مدار أيام الهروب الكبرى، تعلقت قلوب الكثير من العرب بهذا الحدث الاستثنائي، أيام انتظار مليئة بالقلق ومشحونة بالتوتر، بانتظار خبر يقول إن الفدائيين وصلوا إلى بر الأمان وتجاوزوا مرحلة الخطر، أو أن يخرج أحدهم في فيديو ويقول: "لوحنا ع القواعد لوحنا".

أعاد الحدث ذكريات جميلة عن المقاومة الفلسطينية في عزها، حينما كانت قطاعات واسعة من الجماهير العربية تتابع أخبار العمليات للفدائيين في فلسطين، عبر محطات الإذاعات، حينما كانوا يضربون في عمق الأراضي المحتلة، ويستشهد بعضهم، ويهرب البعض الآخر. وفيما يشبه الحكايات الأسطورية، استطاع بعضهم الوصول إلى لبنان عبر السباحة، واستطاع آخرون الوصول للأراضي الأردنية أو السورية، فيما كانت الروح العربية، التي سحقتها النكبات والنكسات، تعود من جديد وتحلق عالياً على وقع بطولات أبطال قالوا: "حين يصيح البروقي ما في عوقي".

وربما، من لم يعش تلك الأيام المجيدة، ذكره الحدث بالانتفاضتين الفلسطينيتين، الأولى والثانية، والمواجهات الملحمية التي خاضها وقادها شباب صغار، استطاعوا أن يأسروا أفئدة العرب في كل مكان، وبقدر ما كان العربي يشعر بالعجز والقهر لعدم قدرته على المشاركة في تلك الملاحم، بقدر ما استعاد الثقة بنفسه وبقدراته، بما كان يصنعه أولئك الشباب من بطولات خارقة، بصبر وذكاء وحنكة، جعلت كل شعوب العالم تتعاطف معهم.
قصة أبطال جلبوع بدت أكثر التصاقا وقرباً للربيع العربي، في مقدماته ونتائجه، فمثلما كسرت الشعوب العربية حواجز الخوف وهرعت، بصدورها العارية إلى الساحات والميادين تواجه المخاطر وتنادي بإسقاط الأنظمة في ثورات بدت مستحيلة للكثيرين، حفر الأسرى، بأيديهم، نفق الحرية، وأنجزوا المهمة المستحيلة

لكن المؤكد أن قصة أبطال جلبوع بدت أكثر التصاقا وقرباً للربيع العربي، في مقدماته ونتائجه، فمثلما كسرت الشعوب العربية حواجز الخوف وهرعت، بصدورها العارية إلى الساحات والميادين تواجه المخاطر وتنادي بإسقاط الأنظمة في ثورات بدت مستحيلة للكثيرين، حفر الأسرى، بأيديهم، نفق الحرية، وأنجزوا المهمة المستحيلة. ورغم إطباق الأنظمة، بأجهزتها وجيوشها، على حلم العرب بالحرية، استطاعت الشعوب بعزيمتها التفلت من القيد، ورغم تجهيز سجن جلبوع بأحدث أجهزة المراقبة، خرق الأسرى جميع الترتيبات التي أوجدتها سلطات الاحتلال.

ومثلما كانت الشعوب العربية تنتظر مع المنتظرين في ميدان التحرير في القاهرة، وشوارع تونس، وحارات دمشق؛ خبر إعلان الثوار الانتصار على الطغاة على أحر من الجمر، كان الكثير من العرب ينتظر خبر نجاة وسلامة أبطال النفق.

الحدثان، الربيع العربي والخروج من النفق، سلطا الضوء على أشواق العربي للحرية، وعلى قدراته الهائلة على التضحية والمغامرة في سبيلها، كما كشفا عن الإمكانيات الهائلة التي يملكها العربي، لدرجة يصعب توقع ردات فعله المستقبلية، وخاصة في ما يتعلق بنضاله في سبيل الحرية والكرامة. لكن لما كانت الخواتيم درامية وحزينة، لماذا لم يصل الأبطال إلى الحدود هذه المرّة، وقبلهم لم تصل الشعوب العربية إلى غايتها في الحرية؟
الحدثان، الربيع العربي والخروج من النفق، سلطا الضوء على أشواق العربي للحرية، وعلى قدراته الهائلة على التضحية والمغامرة في سبيلها، كما كشفا عن الإمكانيات الهائلة التي يملكها العربي، لدرجة يصعب توقع ردات فعله المستقبلية

في سنة 1848 ثارت أوروبا ضد حكم الديكتاتوريات، اندلعت الثورة في كل أرجاء القارة الأوروبية، في ما سمي في حينه "الربيع الأوروبي"، ورغم أن الثورات حقّقت نتائج مهمة، لكن الأنظمة استطاعت، عبر تحالفاتها، القضاء على الثورات، حينها قيل "إن التاريخ وصل إلى منعطف لكنه لم ينعطف". لكن أثبتت الأحداث التالية أن لا شيء يمر دون أن يترك أثراً أو يؤسس لحدث بعده أكثر تأثيراً وأشد قوّة، وهذا ما حصل، إذ بعد سنوات معدودة تحرّرت أوروبا من الاستبداد الذي أصبح اليوم ذكرى بعيدة.

لم يصل الأبطال إلى بر الأمان، كما لم تصل الشعوب العربية قبلهم إلى الحرية، لكن أفعالهم ستكون مداميك مهمة في صروح التحرّر. فمن اليوم في فلسطين وبلاد العرب لم يسأل ويناقش ويفكر لماذا حصل ذلك، ولماذا لم يصلوا لبر الأمان، مثلما فكّرت الشعوب العربية وناقشت الأسباب التي منعتهم من تحقيق أحلامهم؟

وكما الصراع مع الأنظمة الاستبدادية يحتاج لصبر وتفكير عميق، كذا نيل حرية الفلسطينيين يحتاج كذلك لمقاومة وتضحية، وبالتأكيد لم يكن همُّ أبطال نفق سجن جلبوع النجاة بأنفسهم، هم بالأصل دخلوا سجن جلبوع لأنهم كانوا يفكرون بالخلاص لكل فلسطين، والخلاص قادم، حتى وإن تم حفر طريقه بالملاعق.

twitter.com/ghazidahman1