آراء ثقافية

من ألحان "بليغ" الإسلامية للنقشبندي

غرام حمدي بالتجريب ورهافة إحساسِه النغميّ أدّت إلى خروج باقةٍ من أكثر الأغاني الإسلامية فَرادةً في تاريخ الأغنية الدينية- تويتر

لا يرتبط اسم "بليغ حمدي" في وجداننا بتلحين القصيدة الفصيحة، كما لا يقفز إلى أذهاننا بداهةً حين نستحضِر الأغنية الدينية المصرية.

 

إلاّ أنّ غرامه بالتجريب ورهافة إحساسِه النغميّ، إضافةً إلى ما يُشاعُ عن رغبة الرئيس الراحل أنور السادات في أن يتعاونَ لحنُ (بليغ) مع صوت النقشبندي، أدّت هذه الأمور إلى خروج باقةٍ من أكثر الأغاني الإسلامية فَرادةً في تاريخ الأغنية الدينية المصرية. 


•مولايَ إنّي ببابِك:   


في البدء تنقر الدفوف والرّقّ إيقاع المصمودي الكبير الرصين، ثم تدخل الجوقة مع الوتريات والناي في مقام البياتي على درجة (لا) حيث يُترَك غناء المَذهب للجوقة بطُول الأغنية، ويقسّمُه (بليغ) تقسيمًا دراميًّا واضحًا، فالمفتَتح "مولايَ إني ببابكَ قد بسطتُ يَدي" يُراوِح حول جذع المَقام - بين درجَتَي (صول) و(مي) – ليقفِز إلى الفرع في أعلى المقام مع سؤال الحيرة "مَن لي ألوذُ به" بين درجتَي (صول) الجَواب و(ري)، ليعود مطمئنًّا إلى الجذع وإلى درجة الركوز (لا) مع انتهاء الحيرةِ وتقرير ألاّ ملجأَ إلاّ الله "إلاّكَ يا سنَدي".

على هذا المِنوال نسجَ (بليغ) ألحانَه الخمسةَ عشرَ للشيخ النقشبنديّ. لا يمكننا أن نصِف أيًّا من هذه الألحان بالصعوبة.

 

إنها موغِلةٌ في البساطة، لكنها بالغة الجَمال. الأغاني قصيرةٌ إجمالاً، ولا نلمح فيها أثرًا لنقلاتٍ مقاميّةٍ، ولا لأي شكلٍ من ِأشكال الهندسة التوافُقيّة (الهارمونية) أو الطِّباق (الكونترابنط) إلاّ أقلَّ القليل، لكنّها حلوةٌ إلى درجةٍ عبقرية. 

 

لا أتخيّل أنّ الكثير يمكن أن يُقال عن صوت النقشبندي القدير. كان في حنجرته صندوقٌ مُصَوِّتٌ مضبوطٌ ضبطًا ربَّانيّا.

 

ربما ليس في طلاوة صوت الشيخ (نصر الدِّين طوبار) – وهو قمّةٌ أخرى من قمم الإنشاد والابتهالات المصرية – إلاّ أنه متّصِلٌ اتّصالاً وثيقًا بوِجدان المصريين الدّينيّ، بفخامتِه ومَداه العريضِ المتجاوِب مع ما دأب المصريون على الشعور به من هيبةٍ أمامَ مخاطبَة الله.

 

ولعلّ أقربَ مُعادِلٍ له في وعيي الشخصيِّ هو صوتُ المرحوم الشيخ (إبراهيم جلهوم) حين كان يخطبُ الجمعةَ في مسجد السيدة زينب بالقاهرة، باعثًا الهيبة والتوقيرَ في صدور مستمِعِيه.


وقد تميَّزَ أداء النقشبنديّ بتَسَرُّبِ قواعد تجويد القرآن إليه بدرجةٍ كبيرةٍ، فنلاحظ حين يقول "ومَن يَعُذ بِكَ لن يَشقَى إلى الأَبَد" أنه يُدغِم نون (لن) في ياء (يَشقَى) كما تقضي بذلك قاعدةُ التجويد، لكنه لا يفعلُ مثل ذلك في "ومَن يَعُذْ"، ولا يُدغِمُ كذلك نون تنوينِ من (عائِذٌ) في واو (وَجِلٌ) في الشطر السابق "بِنُور وجهِكَ إنّي عائذٌ وَجِلٌ".

كما نلاحظُ أنه يتعاملُ مع المُدود بحرّيةٍ في إضفاء العُرَب، فيراوح حول النغمات الأساسيّة وهو يهبِطُ درجات مقام البياتي، كما يتّضِحُ في الأداء الأول لمَدّ الألِف في كلمة (رِضاك) من شطر "تحلو مرارةُ عيشٍ في رضاكَ.."، لكنّه لا يلجأ أبدًا إلى ترعيد المُدود – بمعنى تغيير طبقة الصوت عُلُوًّا وانخفاضًا كما يفعلُ مُطربو الأوپرا فيما يُسمَّى عندهم بأثر الترعيد tremolo – وهو الأثرُ الذي يحذّرُ منه العلماءُ بتجويد القرآن. ونلاحظ هذا التصرُّف الأدائي في الأداء الثاني الصاعد لكلمة (رضاك). 

بيد أنّ هنا نقلةً مقاميّةً في أداء "مَن لي سِواكَ ومَن سِواكَ " حيث ننتقل إلى العجَم الفرِح، ليعلِن (بليغٌ) بذلك عن الفرَح بحضور الوحدانيّة وانتفاء الملجأ إلا عن الله، عائدًا إلى دفء البياتي مع "كلُّ الخلائقِ ظِلٌّ في يَدِ الصَّمَد".

 

أما النقلة المقامية الثانية فهي مجرد انتقالٍ من البياتي إلى فرعٍ له هو مقام (قارجهار) مع أداء لفظ الجلالة في قولِه "هل يرحَمُ العبدَ بعدَ اللهِ مِن أحدِ؟" حيث يلجأ إلى هبوط سُلّم جنس الحجاز، موحيًا بالإشفاقِ من حالِ مَن ييأسُ من رحمةِ الله.

 

وفي هاتين النقلَتين القصيرَتين يتضافرُ إحساسُ (بليغ) المُرهَفُ بمقتضى الكلام مع أداء النقشبنديّ الفخم القدير ليحفِرا معًا في وِجداننا معنى هذا الاستفهام الإنكاريّ. 

إلا أنّ ملمحًا مهمًّا في أداء الجوقة هو تخلّيها عن مقتضيات النُّطق الفصيح، فهم ينطقون الذالَ في (ألوذُ) زايًا، ويقعون في أخطاء من هذا النوع في كثيرٍ من الأغاني.

•(عليك سلامُ الله):


نسمع صوت الجيتار في المقدمة الآلية، ولعلّ هذا الظهور يلخّص عظمة الخطوة التي خَطاها (بليغٌ) بالإنشاد الإسلاميّ، حيث جنّد آلةً ارتبطَت في الوعي العامّ بالأغنية الغربية الحديثة في خلفيّة مُنشِدٍ يخاطبُ النبيّ صلى الله عليه وسلَّم. هو إقدامٌ يذكّرُنا تجنيد المرحوم د.

 

جمال سلامة للپيانو في أغانيه الإسلامية، فضلاً عن استعانته فيها بإمكانات التأليف التوافُقي (الهارموني) والطِّباقي (الكننترابُنطي). تنساب الموسيقى في مقام (حِجازَين) على درجة (ري).

بخلاف (مولايَ إني ببابك) التي صاغَها الشاعر (عبد الفتاح مصطفى) في البحر البسيط وظهر فيها خطأٌ عَروضيٌّ غريبٌ في شَطرها الافتتاحيّ، فقد كان الأصوب إيقاعيًّا أن يُقالَ "مولايَ إني ببابِكُمْ بَسَطتُ يَدِي" مثَلاً، صاغَ شاعرُنا الكبيرُ هذه القصيدةَ في البحر الطويل "عليكَ سلامُ اللهِ يا خيرَ مَن دَعا/ وأصدقَ مَن لَبَّى وأخَلَصَ مَن سَعَى".

 

وقد قدَّرَ (بليغٌ) أنّ أثرَ اللحن المسكونِ بالشَّوق - نتيجة اختيار المقام الذي جذعه وفرعه جنس الحجاز – سيكون أبلغَ إن أنطَقَ الجوقةَ بلفظ الجلالة وحدَه مرَّتين قبل أن تؤدّي عبارة (سلامُ الله) قافزةً من (صول) إلى (سي بيمول) ثم هابطةً (لا – صول- فا دييز – مي بيمول – ري) لتستقرّ على ركوز المقام. 


وبعد أن يُنشِد الشيخُ "وأعدَلَ مَن ساسَ الحياةَ على الهُدى/ وأحزم من راضَ الخُطوبَ وأشجعَا./ سلاماً رسول الله ما هبَّ مسلمٌ/ وكبَّرَ باسمِ اللهِ جهرًا وأَسمَعا."، يتحول المقام في الفاصل مع عزف الناي منفرِدًا إلى الراست على درجة (صُول). 

والغريبُ أنّ الشيخ يُسقِطُ واو العطف من بداية البيت الثاني "وهبَّ رجالٌ للصلاة ونسوةٌ/ صُفوفًا وُقوفًا في حِمَى اللهِ خُشَّعَا/ إلى قِبلةِ البَيت العتيقِ عيونُهم/ إذا رُتِّلَ القُرآنُ تَنهَلُّ أَدمُعَا."، وهو ما يَشي بأنّ الخطأ العروضيّ الشهير في "مولاي إني ببابكَ" ربّما كان من تدخُّل (بليغ) لا أصليًّا فيما كتبَه الشاعر. 

يعودُ المقامُ بعد قوله "نقيمُ على الإيمانِ والعِلمِ صَرحَنا/ إذا السَّلمُ نادانا أو الرَّوعُ جَمَّعا" إلى (الحجازين) في قوله "عليكَ سلامُ اللهِ يا خيرَ مَن دَعا/ وأصدقَ مَن لَبَّى وأخَلَصَ مَن سَعَى". 


•(أُخُوّة الحَق):


تبدأ بمقدمة قصيرة للوتريات والجيتار، ويُسكِت (بليغٌ) آلات الإيقاع تمامًا طيلةَ الأغنية. تدخل بعدها الجوقة منشِدةً في مقام الحجازَين على درجة (دو) ما صاغه الشاعر في البحر البسيط "أخوَّةُ الحَقِّ باسمِ اللهِ هادِينا/ ظَلَّت على الدَّهر مِن أغلى معانينا".

 

لكن هنا تتغلّب رغبةُ (بليغ) الجامحة في التجريب على إخلاصِه للكلمات، فيَلوي نُطقَها العربيَّ وتُلغي الجوقة ألف المَدّ الأولى في كلٍّ من (هادينا – معانينا) مكتفيةً بفتحتَي الهاء والعين على الترتيب.

 

وتكون النتيجة لحنًا جميلاً في ذاتِه، بعيدًا عن الكلمات، ولنا أن نجرّب ونضعَ على هذه الجملة اللحنية المُنذِرة التي ترددها الجوقة أيّ كلماتٍ، وسنكتشفُ أنّها لا تنقُصُ شيئًا من جمالِها، وذلك أنها مقطوعة الصِّلةِ أساسًا بقصيدة (عبد الفتاح مصطفى)! وما يزيدُ الأمر غرابةً أنّ النقشبنديّ يخطئ خطأً نحويًّا بيّنًا هو الآخَر حين ينصِب كلمة (نبيّ) في "آخَى نبيُّ الهُدى ما بينَ صُحبَتِه"، وحقُّها الرفعُ على الفاعليّة! 

من هذا المرور السريع يتّضح لنا أن تجربة (بليغ حمدي) في تلحين الأغنية الدينية - كما تجسّدَت في تعاونه مع الشاعر عبد الفتاح مصطفى والمُنشد الشيخ النقشبندي – هي تجربةٌ أثبتَت بالتأكيد نجاحَها، بدليل ذيوع بعض أغانيها على الألسُن وتجذُّرها في الوعي الجمعي الديني للمصريين.

 

ولعلّ أهم خصائص تلك التجربة انسيابيّة ألحانِها وبساطتُها ومقدرة (بليغ) على إخراج جُمَلٍ لحنيّةٍ حلوةٍ في ذاتِها وجديرةٍ بالبقاء.

 

إلاّ أنّ من خصائصها السلبيّة قلّة اهتمام (بليغ) بأن يُعطِيَ اللحنُ الكلمات حقَّها من النُّطق الصحيح، وهو ما تجلّى خاصَّةً في مذهب (أخوّة الحقّ)، وفي عدم إشباع ياء (إنِّي) في (مولاي إنّي ببابِك).

 

ربما يكون ضعف علاقة (بليغ) بالقصيدة الفصيحة هو سبب هذا الأمر، قِياسًا إلى علاقة سلفَيه الكبيرَين (رياض السنباطي) و(محمد عبد الوهّاب) بها.

 

إلاّ أنّ التجربة في مجملِها تستحقُّ ما أحرزَته من بقاءٍ كما تستحقُّ دراسةً أكثر استفاضةً لبيانِ نقاط قوتها وضعفها.