نشر موقع "نيويورك ريفيو" الأمريكي
دراسة مطولة حول نظام الفصل العنصري "الأبارتايد" الإسرائيلي، قال فيها
إن عام 2021 قد يؤرخ له في المستقبل، باعتباره عام تغيير الموجة لصالح النضال
الفلسطيني.
وأضافت الدراسة، التي أعدها طارق باقوني، أن هذا
العام شهد لأول مرة وصف الاحتلال باعتباره نظام فصل عنصري من منظمة إسرائيلية، كما
أن هذه المنظمة المرموقة -وهو الأهم بنظر المؤلف- اعتبرت أنه لا يمكن اعتبار الفصل
العنصري واقعا فقط في المناطق المحتلة عام 1967، بل هو واقع الحال في كل المناطق
التي تسيطر عليها القوات الإسرائيلية في فلسطين التاريخية.
وتستعرض الدراسة معنى نظام الفصل العنصري عمليا
بالنسبة للاحتلال الإسرائيلي، ليس باعتباره مجرد اتهامات خطابية، بل واقعا حقيقيا
يعيشه الفلسطينيون يوميا.
الجزء الأول: دراسة: ماذا يعني "الفصل العنصري" بالنسبة لإسرائيل؟ (1)
الجزء الثاني: دراسة: هكذا حارب الاحتلال النضال الفلسطيني بـ"الأبارتايد" (2)
الجزء الثالث: دراسة: ماذا يعني "الفصل العنصري" بالنسبة لإسرائيل؟ (3)
وتنفرد "عربي21" بنشر ترجمة كاملة للدراسة على أربعة أجزاء، وفي ما يأتي الجزء الرابع والأخير منه:
من دون أن تقصد، ساهمت القيادة الفلسطينية الرسمية، من خلال تركيزها على الأبارتيد الإسرائيلي الممارس داخل الأراضي المحتلة، في تكريس تلك الممارسة،؛ لذلك فإن الفلسطينيين داخل إسرائيل، والذين ما لبثوا يهمشون منذ الدخول في عملية السلام، ظلوا يعيدون التأكيد على رأيهم بأن قرار منظمة التحرير الفلسطينية التاريخي الاعتراف بإسرائيل، وقبول التقسيم، كان بحد ذاته احتضاناً لترتيبات الأبارتيد، التي يعاملون بموجبها بشكل يختلف عما يعامل به الفلسطينيون داخل المناطق المحتلة، رغم أن الطرفين جزء لا يتجزأ من نفس المنظومة.
أخبرني محام فلسطيني بارز أن منظمة التحرير الفلسطينية "شرعنت الصهيونية" من خلال القبول بالتقسيم، مضيفاً أن "أهل الـ48 (المواطنين الفلسطينيين داخل إسرائيل) هم المجموعة الفلسطينية الوحيدة التي تتحدى يهودية الدولة." وفعلاً، يقول أولئك الفلسطينيون إن مقاومة التمييز المؤسسي داخل إسرائيل هو النضال الأساسي ضد الصهيونية، بينما تقوم استراتيجية منظمة التحرير الفلسطينية على القبول بأن احتلال الصهيونية لفلسطين أمر واقع، وعلى العمل ضمن إطار تلك التسوية؛ لضمان الحصول على جزء من حقوقهم، وهو أدنى بكثير من حق تقرير المصير.
ولذا غدا القبول البراغماتي بالتقسيم شائعاً بين الفلسطينيين العاديين وبين قياداتهم كذلك. وحتى وهم يقرون بحقيقة مشروع إسرائيل الاستعماري الاستيطاني ونظام الأبارتيد الذي تقوم عليه، فإن كثيراً من الفلسطينيين ينصاعون في الواقع العملي للتقسيم كسبيل للوصول إلى حكم ذاتي محدود يمنحهم الانفصال، وبالتالي بعض الفرج، إذا يمنون أنفسهم بالتخلص من العيش تحت بصر وسمع قاهريهم. بعد عقود من التمييز والاحتلال، يعترف كثير من الفلسطينيين صراحة، بما في ذلك أنصار حل الدولة الواحدة، بعدم قدرتهم على تقبل العيش في نفس الأحياء مع من يرون لا محالة أنهم يمارسون القهر بحقهم. يرى هؤلاء أنه من الأفضل لهم، فيما يبدو، الحفاظ على منظومة بيئية تكون حصراً على الفلسطينيين. ومن هنا يأتي وهم الخلاص الذي يوفره التقسيم وحل الدولتين المراوغ.
وتلك هي المفارقة التي يحملها معهم كثير من الفلسطينيين وهم يدفعون باتجاه محاسبة إسرائيل على ممارستها للأبارتيد. فباعتبارها الممثل الرسمي الوحيد للشعب الفلسطيني، اكتسبت منظمة التحرير الفلسطينية الصلاحيات الدبلوماسية والقانونية الممنوحة لها فقط بناء على إذعانها للتقسيم واعترافها بدولة إسرائيل. ومن هنا فإن الثمن الذي تدفعه منظمة التحرير الفلسطينية مقابل إدخالها إلى المجتمع الدولي يظل مرتهناً لدى نفس النظام الجيوسياسي الذي مكن في المقام الأول الاستعمار الصهيوني لفلسطين وظل يضمنه. بقي ذلك هو الحال إلى أن وجدت منظمة التحرير في نفسها القدرة الكامنة، وإن كانت محدودة للغاية، لرفع دعوى ضد الأبارتيد الإسرائيلي لدى المحكمة الجنائية الدولية. من وجهة نظر أحد أعضاء هذه القيادة الفلسطينية، فإن تغيير الاتجاه والمحاجة ضد التقسيم ليس فقط أمراً لا يخطر بالبال، وإنما يرقى إلى الانتحار، بينما هو بالنسبة لآخر "أخطر شيء على الإطلاق... إذ إننا سنفقد كل شيء... وماذا عن قرارات الأمم المتحدة؟".
والنتيجة هي الشلل السياسي – والأمر الواقع الكارثي الذي يظل قائماً بفضل التعلق بوهم حل الدولتين الذي لم يعد أحد تقريباً يؤمن به. لا شك أن نظام القانون الدولي الذي تعلق عليه منظمة التحرير الفلسطينية آمالها، ويستمر الفلسطينيون في استدعائه لتسليط الضوء على الانتهاكات الإسرائيلية لحقوقهم، ما زال يوفر أدوات مهمة، مثل قرار الأمم المتحدة رقم 3236، الذي يؤكد على الحق الفلسطيني في "الاستقلال الوطني والسيادة"، وعلى حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم.
ولكن، وبنفس القدر، يمكن أن يكون ذلك النظام مقيداً للحركة، وأن يشترط مقابل الاعتراف الدولي بتطلعات الفلسطينيين نحو إقامة دولة خاصة بهم إضفاء الشرعية على الاحتلال الاستيطاني لإسرائيل. بمعنى آخر، لدى منظمة التحرير الفلسطينية حافز قوي لكبح أي اعتراف بالكيفية التي يعمل بها كل المجموع كنظام فصل عنصري. والخلاصة هي نخبة فلسطينية فاسدة عميلة وسلطوية تذعن لهذا النظام بدلاً من أن تتقدم باستراتيجية للتحرير بإمكانها أن تتجاوز كل هذه التعقيدات.
إن تفكيك الأبارتيد الإسرائيلي -الذي هو تجل واحد فقط من تجليات التاريخ الاستيطاني الاستعماري الذي بدأ قبل عام 1948- ما هو ببساطة إلا مظهر واحد من عملية إزالة الاستعمار التي يناضل الفلسطينيون في سبيلها. وهذا المشروع -بما فيه من تعقيدات وتعدد واجهات وسوء فهم- يشتمل على توترات يمكن أن تبدو عصية على الحل. بالنسبة لزعماء منظمة التحرير الفلسطينية، يستمد أحد هذه التوترات من الخوف من أن المرء ليس بوسعه في نفس الوقت محاربة الاحتلال والأبارتيد. إنه تفكير ثنائي دون أدنى ضرورة.
والأهم من ذلك، تجده أكثر ميلاً نحو القانون الدولي وعقيدة الأمم المتحدة فيما يتعلق بالموقف من فلسطين (كما هو متضمن في قرارات الأمم المتحدة مثل قرار 242، الذي يعتبر المستوطنات الإسرائيلية غير قانونية)، وكلاهما يعتريه النقص والخلل والتناقضات الجوهرية، ولا يخلو من البصمات الاستعمارية. من الممكن الإصرار على عدم قانونية الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية كمسار قانوني من أجل تحميل إسرائيل المسؤولية ومحاسبتها، بغض النظر عن أي التزام نهائي بالتقسيم.
بإمكان أي حركة فلسطينية نشطة أن تعارض الاحتلال والأبارتيد في نفس الوقت، باعتبار كلا الأمرين من عناصر الاستراتيجية الشاملة للنضال في سبيل المساوة وحق العودة. بمعنى آخر، بيد الفلسطينيين أن يكسروا قيد نموذج الأرض مقابل السلام، والذي أحكم قبضته على رقبة القيادة الرسمية، فمنطق التقسيم هو الذي أعاق السعي نحو انتزاع الحقوق الكونية.
سوء الفهم الآخر، والذي عادة ما يظهر في أوساط الإسرائيليين وأنصارهم الليبراليين في الخارج، يتمثل في أن هدف تفكيك الأبارتيد، وطلب المساواة هو ضمان الحصول على المواطنة الكاملة لجميع الفلسطينيين في إسرائيل.
لقد سمعت مرات عديدة لا تكاد تحصى من صناع سياسة ومسؤولين إسرائيليين أنّ من المفهوم أنْ يطالب الفلسطينيون بالمساواة مع الإسرائيليين؛ نظراً لأن إسرائيل توفر حياة أجود وأكرم مقارنة بما قد توفره الدولة الفلسطينية. الغريب في الأمر أن الزعماء الفلسطينيين حانقون -وإن كان دون التعبيرات ذات الطابع الأبوي السلطوي- لأن المطالبة بالمساواة تعني طلب المواطنة داخل إسرائيل. قال لي أحد قادة منظمة التحرير بكل حمية: "لا أريد أن أكون إسرائيلياً. لا أريد لهم أن يستولوا على فلسطين بموافقتي".
كالعادة، هذه النظرة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بحل يقوم على التقسيم، حتى أنها تخفق في استيعاب حركة مناهضة للأبارتيد كعنصر مهم في عملية تاريخية أكبر للتخلص من الاستعمار. أحد الفلسطينيين في إسرائيل استخدم كلمة "الاستسلام" ليصف لي ما ذا يعني طلب المواطنة في إسرائيل، وذلك قبل أن يبدأ في توضيح معنى عبارة التخلص من الاستعمار على النحو التالي: "نحن نريد أن نكون مواطنين ليس في إسرائيل، ولكن في دولة مختلفة تماماً".
من الواضح أن القيام بفعالية بنزع الاستعمار عن منظومة تتمتع بقدر أكبر من القوة اقتصادياً ودبلوماسياً وعسكرياً لهو تحد ضخم. والنقطة الوحيد الذي ينبغي على الفلسطينيين أن يبدأوا منها هي استراتيجية سياسية هدفها التخلص من الاستعمار، بحيث تكون الحجة واضحة في رفض التقسيم باعتباره يقود إلى طريق مسدود وكارثي. لا يعني الاعتراف بتلك الحقيقة أن على الفلسطينيين التخلي عن أحكام القانون الدولي وأدواته التي تقوم على مثل ذلك التقسيم، وإنما المقصود هو أنه ينبغي أن تكون الاستراتيجية الجديدة من الذكاء، بحيث تستخدم تلك الأدوات، سواء كانت خشنة أو محدودة، لخدمة التحرك الأوسع نحو تخليص فلسطين من الاستعمار.
إذا ما وضعنا الذعر الذي ينتاب القيادة الرسمية الفلسطينية جانباً، فإن السؤال المطروح ليس ما إذا كان يجب أو لا يجب على الفلسطينيين تبني هذا الإطار الجديد، حيث إن الحراك قد انطلق، يقاد ليس من أعلى، وإنما من قبل القواعد الجماهيرية. لقد كانت مسيرة العودة الكبرى في غزة ما بين 2018 و2019 مثالاً قوياً على قدرة الحراك الشعبي الفلسطيني على العودة إلي لغة الحقوق، والنأي بنفسه عن تقييدات التقسيم.
لم تنحسر الحملة إلا بعد أن أحكمت حماس سيطرتها على المقاومة، بينما غض المجتمع الدولي بصره حينما استخدمت إسرائيل العنف القاتل بشكل عشوائي لقمعها. ومؤخراً أصدرت انتفاضة الوحدة في شهر مايو/ أيار بيان الكرامة والأمل الذي تحدث ضد التجزئة وضد "سجن أوسلو"، حسب وصفه لاتفاقيات عملية السلام. أكد البيان على أن الانتفاضة "تعيد توحيد المجتمع الفلسطيني بمختلف تكويناته، تعيد توحيد إرادتنا السياسية ووسائل نضالنا في مواجهة الصهيونية في كل أرجاء فلسطين".
قبل سنوات عدة، وقبل الموقف الأخير الذي عبرت عنه كل من منظمة بيتسيلم ومنظمة هيومان رايتس واتش، كنت قد سألت دبلوماسياً في الاتحاد الأوروبي ما إذا كانت بلاده ستستمر في دعم إسرائيل فيما لو اعتبرت على نطاق واسع دولة أبارتيد، فجاءت إجابته مذهلة في صراحتها:
"ما نحن بصدده هو فعلاً أبارتيد. حينما يشن الفلسطينيون بالفعل نضالاً ضد الأبارتيد، لا أدري. لقد حافظت إسرائيل بحكم الأمر الواقع على نظام قانوني من طبقتين على مدى الخمسين عاماً الماضية، وما زالت العلاقات الأوروبية الإسرائيلية تترسخ. متى سيصبح الأبارتيد فظيعاً إلى الحد الذي يحرج حكومات الاتحاد الأوروبي؟ الوضع بالغ المرونة، ويمكن لحبل الكذب أن يستمر لزمن طويل".
بالنسبة للفلسطينيين لا يتعلق الأمر ببساطة بما هي الاستراتيجية التي قد تنجح في النهاية، وإنما يتعلق بالبقاء. فقد بات هدف الاستعمار الصهيوني لفلسطين مكشوفاً، والهدف ليس تحصين الأبارتيد بقدر ما هو المزيد من مصادرة أراضي الفلسطينيين، وإقامة المزيد من المستوطنات اليهودية عليها. عندما تصدح أصوات اليمين الإسرائيلي مطالبة بنقل السكان (الترانسفير) بتعبيرات سافرة، وبشكل متزايد، كما يحصل عندما ترحب مجالس المستوطنين بنقل الفلسطينيين في المناطق المحتلة لإتاحة المجال لإجراء المناورات العسكرية، باعتبار ذلك "طريقة أخرى لتعزيز الحكم، وفرض السيطرة على الحيز المفتوح"، فإنه ينبغي علينا أن نصدقهم. فها هي الأمور التي دعا إليها أسلافهم المتطرفون، والتي كانت حينذاك تبدو مستهجنة ومتطرفة، قد بدأت تتحقق. لم تنته النكبة على الإطلاق، وقد تشهد الأيام القادمة طرداً جماعياً آخر.
تذكرنا أحداث شهر مايو / أيار بأننا معشر الفلسطينيين شعب واحد نتحد في معارضة نفس النظام. يوجد ضمن تلك الوحدة تنوع كبير، من حيث التكتيكات والأيديولوجيا والمشاعر. ينبغي أن تتسع حركتنا للجميع، ولكن ينبغي أن تكون الرؤية واحدة حول ماذا يعني التحرر، إنه يعني القضاء على الحكم الاستعماري الاستيطاني في فلسطين.
طارق باقوني، مؤلف كتاب "احتواء حماس: صعود وتسكين حركة المقاومة"، الذي صدر له في عام 2018. وهو كبير باحثين سابق في مجموعة الأزمات الدولية حول إسرائيل/ فلسطين، وكان في عام 2021 باحثاً زائراً في مركز الأبحاث الإنسانية في جامعة الرأس الغربي (ويسترن كايب)، وعين رئيساً لمجلس إدارة الشبكة: شبكة السياسات الفلسطينية.