قضايا وآراء

الغنوشي وجها لوجه مع الانقلاب

1300x600
فجر 26 تموز/ يوليو 2021، تناقلت وسائل إعلام محلية وعالمية تلك الصورة الرمزية للأستاذ راشد الغنوشي وهو يقف قبالة دبابة عسكرية تسد باب البرلمان، تنفيذا لقرار القائد الأعلى قوات المسلحة بإيقاف المسار الديمقراطي وقيادة البلاد بإجراءات استثنائية؛ انتزع فيها قيس سعيد لنفسه كل السلطات وأصبح الحاكم بأمره، خاصة بعد صدور الأمر الرئاسي عدد 117 بتاريخ 22 أيلول/ سبتمبر 2021.

راشد الغنوشي الواقف قبالة الدبابة صبيحة الانقلاب مخاطبا الجندي، كان يعلم أن ذاك العسكري لم يكن أن يعصي أوامر القائد الأعلى قوات المسلحة وأنه لن يفتح باب البرلمان، وإنما كان يسجل موقفا للتاريخ وكان يرسل برسالة إلى العالم مفادها أن السطة التشريعية ليست قابلة بما حصل؛ رغم قول قيس سعيد في بيانه الانقلابي إنه احترم ما ينص عيه الدستور من استشارة رئيس البرلمان ورئيس الحكومة قبل تطبيق الفصل 80 من الدستور التونسي عند وجود خطر داهم.
وقفة الغنوشي تلك قبالة الدبابة العسكرية قد كانت الخميرة التي انطلقت منها مواقف نخب وأحزاب ومنظمات معبرة عن رفض الانقلاب، حتى توسعت دائرة الرفض وتحولت إلى حراك مواطني كبير تجلى في احتجاجات جماهيرية

الانقلابات العسكرية صادمة دائما للرأي العام وباعثة على الخوف وعلى التهيب من الجيش والتوجس من ردة فعله، لذلك يكون لا بد من موقف رجل شجاع يكسر الخوف ويعبر بوضوح وعلى الأرض عن معارضة الانقلاب في لحظاته الأولى. وهنا يمكن القول إن وقفة الغنوشي تلك قبالة الدبابة العسكرية قد كانت الخميرة التي انطلقت منها مواقف نخب وأحزاب ومنظمات معبرة عن رفض الانقلاب، حتى توسعت دائرة الرفض وتحولت إلى حراك مواطني كبير تجلى في احتجاجات جماهيرية بشارع الحبيب بورقيبة، أيضا في بيانات أغلب الأحزاب والمنظمات، وخاصة حزب التيار الديمقراطي الذي كان من مناصري قيس سعيد، وأقوى موقف هو ما صدر أخيرا عن المحامي محمد عبو، مؤسس حزب التيار الديمقراطي وصاحب فكرة الانقلاب، إذ أصبح يقول: "يجب إسقاط قيس سعيد بأي وسيلة شرعية أو غير شرعية".

زعيم حركة النهضة لم يكف عن إصدار بيانات المكتب التنفيذي لحزبه؛ منددا بالانقلاب وبممارساته، ومحذرا من مخاطر ما يعتزم قيس سعيد فعله بالنظام السياسي وبالمسار الديمقراطي من خلال مشروعه "المجالسي" ونظرية "البناء القاعدي"، أيضا من خلال خطابه التحريضي الشعبوي المشحون حقدا وكراهية وتخوينا وحكما على نوايا الناس وضمائرهم.
نجح في تحويل المعركة مع الانقلاب إلى معركة وطنية وليست حزبية، ونجح في تأكيد أن المستهدف ليس حركة النهضة وإنما المسار الديمقراطي كله، ونجح أيضا في كسب الدعم الخارجي للتجربة الديمقراطية.. ها هو منذ أسبوعين ولأول مرة بعد أربعة أشهر من الانقلاب؛ يخرج بصفته السياسية والفكرية لـ"منازلة" الانقلاب من خلال خطاب مكتوب ومسموع

الغنوشي الذي نجح في تحويل المعركة مع الانقلاب إلى معركة وطنية وليست حزبية، ونجح في تأكيد أن المستهدف ليس حركة النهضة وإنما المسار الديمقراطي كله، ونجح أيضا في كسب الدعم الخارجي للتجربة الديمقراطية.. ها هو منذ أسبوعين ولأول مرة بعد أربعة أشهر من الانقلاب؛ يخرج بصفته السياسية والفكرية لـ"منازلة" الانقلاب من خلال خطاب مكتوب ومسموع.

فقد أجرى حوارا مطولا مع إحدى الصحف التونسية يقيم فيه الحجة على قيس سعيد؛ بأن أعلن عدم التأخر في إعلان الاستقالة من رئاسة البرلمان إذا تراجع الرئيس عن إجراءاته الاستثنائية. وفي فيديو مسجل موجه للشعب التونسي - ولأول مرة - عبّر الغنوشي عن كون ما أقدم عليه قيس سعيد خيارا خارج المسار الديمقراطي، وقد يكون مقدمة لحكم استبدادي مطلق.

أما مقاله المطول في جريدة "الرأي العام" القريبة من حزب النهضة، بتاريخ 18 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري، فقد جاء بمثابة شهادة تاريخية لخصت الأحداث منذ 2011 وما عرفه المسار الديمقراطي من تعطيل وتعثر، ومن محاولات توافق مع علمانيين ومع نداء تونس الممثل للدولة العميقة والنظام القديم، لافتا إلى خطأ عدم الانتباه إلى ضرورة التوافق مع معتدلي الدساترة (البورقيبيين) لمنع نشأة حزب "فاشي" هو الحزب الدستوري الحر، والذي أصبح يتصدر استطلاعات الرأي في انتخابات تشريعية قادمة.
لا يرى الغنوشي مستقبلا للانقلاب، ليس فقط بسبب معارضة الداخل والخارج له، ولكن أيضا - وأساسا - بسبب عجزه عن تحقيق وعوده وشعاراته: "إن نظرية سعيد، الشعب يريد وهو يعرف ما يريد، كنظريته حول نظام الحكم الجماهيري دون أحزاب وبرلمان، غير قابلة لأن تترجم إلى الخلاص من مديونية، وتمويل ميزانية وأسعار مناسبة ومواطن شغل وحاجات شعب تزداد تعقيدا

الغنوشي يعترف بأخطاء حزبه السياسية وبفشل الحكومات المتعاقبة في تحقيق ما قامت الثورة من أجله، خاصة في بعدها الاجتماعي التنموي، غير أنه لا يبخس ما تحقق من حريات طيلة العشرية الماضية التي يصمها خصوم النهضة بـ"السوداء".

في مقاله الأخير، لا يرى الغنوشي مستقبلا للانقلاب، ليس فقط بسبب معارضة الداخل والخارج له، ولكن أيضا - وأساسا - بسبب عجزه عن تحقيق وعوده وشعاراته: "إن نظرية سعيد، الشعب يريد وهو يعرف ما يريد، كنظريته حول نظام الحكم الجماهيري دون أحزاب وبرلمان، غير قابلة لأن تترجم إلى الخلاص من مديونية، وتمويل ميزانية وأسعار مناسبة ومواطن شغل وحاجات شعب تزداد تعقيدا. فلا بد أن نترك لفواعل الواقع وضغوطه اليومية على كل حاكم، أن تعمل عملها ضغطا عليه لإنزاله من علياء شعاراته إلى أرض الواقع بما يفرض عليه اكتشاف التناقض السافر، ليس بينه وبين النهضة، وإنما بينه وبين مطالب المجتمع والنخب، فلندعه يحكم، ولو نجح فلن يحزّ ذلك في نفوسنا بل سنفرح له وسنعينه ولن نعيقه. فتونس أغلى علينا من النهضة بل من أنفسنا".

يبدو الغنوشي متأكدا من أن نهاية "ظاهرة قيس سعيد" قريبة لتوفر شروطها، ويبدو أن تفكيره الآن هو حول ما/ من بعد قيس سعيد.

twitter.com/bahriarfaoui1